البيان الذي صدر عن كل من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب يحمل في طياته الكثير من المؤشرات ومن الدلالات أيضاً.
البيان في حقيقته انعكاس عن واقع بائس داخل منظمة التحرير الفلسطينية، ويعبر عن حالة انفصام مروعة في العلاقات الوطنية الفلسطينية.
فمن جهة تتحدث حركة فتح عن توجهات «جادة» وجديدة نحو حوارات معمقة للبدء الفعلي بإعادة تفعيل المنظمة والعمل على إصلاحها، والتشاور مع الجميع لإحداث حالة استنهاض في مؤسساتها بهدف أن تستعيد دورها ومكانتها، ومن جهة أخرى لا ترى "فتح" (على ما يبدو) ان قطع مخصصات هذه الفصائل الثلاثة وحجز أموالها المستحقة من الصندوق القومي وكأنه من «طبيعة الأشياء»، ومن التبعات «المعتادة» للخلاف داخل المنظمة، وان الأمر هنا لا يشي بالابتزاز.
وبالمقابل، فإن الفصائل الثلاثة، وان بتفاوت كبير بين مواقفها لا ترى في «الانفلات» السياسي أحياناً، وفي التغريد من خارج كامل السرب، بل وفي اصطفافاتها المرِبكة والمرَبكة ما تلام عليه، او ما يلزمها بضبط الفواصل أحياناً او تحديد التخوم الممكنة، أو رؤية بعض الحساسيات الخاصة.
أي أن هذه الفصائل ليست على استعداد حقيقي (مع مراعاة الفوارق فيما بين مواقفها) للانطلاق من معادلة الموازنة المسؤولة بين التزامات مفترضة واستحقاقات موجبة وواجبة.
او بعبارات أخرى، تتعامل هذه الفصائل الثلاثة في الشأن السياسي الوطني العام، وكأن حرية الاختلاف مطلقة، وواجبات الالتزام بالحدود الضرورية مسألة نسبية مع فارق أنها لا تعطي لـ«فتح» نفس هذا الحق في رؤية المسائل، ومن على نفس القاعدة وعلى نفس الأسس ووفق نفس الاعتبارات.
لا تفرق هذه الفصائل الثلاثة أحيانا، والبعض منها غالبا بين الوجود الأصيل في المنظمة و«التواجد» فيها، وتتعامل أحياناً والبعض غالباً وكأنها منقادة لتوازنات المعارضة والموالاة، وتبني سياساتها حيال هذه القضية وكأنها تعارض المنظمة بدلاً من المعارضة من داخل المنظمة، ويصعب على المرء أحياناً ان يفهم او يتفهم أين هي الحدود الفاصلة بين هذين الموقفين.
وبالمقابل، فإن «فتح» لم تعد ترى المعادلة الوطنية الداخلية إلا على قاعدة الموالاة والمعارضة، ولم تعد تفرّق أحيانا ان المنظمة حالة وطنية ديمقراطية في جوهرها، لأنها ائتلاف جبهوي وطني عريض على قواعد سياسية وتنظيمية، وانها لا تخضع بالمطلق لمعادلة المعارضة بالموالاة السائدة في الحالة الفلسطينية، بل وفي الواقع العربي كله.
صحيح ان خطاب «فتح» السياسي لا يتورط بمثل هذا الفهم المغلوط، لكن سياسات «فتح» في رؤية العلاقات الوطنية، وفي رؤية الخلافات والاختلافات داخل المنظمة، وجملة المواقف التي تعترض على بعض سياسات السلطة الوطنية، وعلى الكثير من مظاهر الخلل في أداء هذه السلطة .. لا ترتقي الى مستوى إتقان ومهارة التعامل مع موازنة الوحدة والاختلاف في العلاقات الوطنية في الظروف الخاصة والملموسة للحالة الوطنية.
قد يكون لـ"فتح" «مبرراتها» النابعة أصلا من خطر الانقسام على الحالة الوطنية، او من الأخطار المحدقة التي تمثلها سياسات البدائل التي تعمل عليها بعض دول ومنظمات الإقليم، وخصوصا السياسات الاسرائيلية المعلنة بهذا الشأن، وقد ترى "فتح" في تعثر مسار إنهاء الانقسام ما يؤكد ان ثمة ما يكفي من "التساوق" الضمني ما بين هذه الأخطار كلها على شرعية ووحدانية التمثيل، وعلى الهوية الوطنية، بل وعلى الوجود الوطني برمته، وعلى حاضر ومستقبل القضية الوطنية. وعلى حقوق وأهداف الشعب الفلسطيني .. قد ترى "فتح" في كل ذلك ما يبرر لها بعض ردود الأفعال في سياساتها حيال العلاقات الوطنية .. إلا ان ذلك كله يمكن ان يكون سبباً لسياسة مختلفة ومعاكسة للتشنج، بل سببا للمرونة والسلاسة الضروريتين.
وهنا، فإن مسؤولية "فتح" كبيرة، والانتقال من التشنج والتوتر الى حالة التفاهم والتفهم المتبادل هو المؤشر الوحيد الذي يدل على إدراك الضرورة والعمل من على أساسها.
باختصار فإن "فتح"، بصفتها القائدة وبصفتها المسؤولة بصورة خاصة عن حماية المشروع الوطني، وعن حماية ورعاية المؤسسة الوطنية، تتحمل المسؤولية الأكبر عن فشل او تعثر او نجاح العلاقات السليمة في الحالة الداخلية الفلسطينية.
الفصائل الثلاثة مع هذا كله تتحمل مسؤولية خاصة واستثنائية بصورة قد لا تكون خطرت على بال هذه الفصائل.
في حالة الاستقطاب السياسي القائمة على الصعيد الوطني، والتي أدت بسبب هذه الثنائية الاستقطابية بالذات الى وضع الاستعصاء والانسداد الكامل، يصبح الحل الوحيد الممكن في حالة ان توفرت إمكانية العمل عليه، وتحويله الى خيار عملي ومباشر هو كسر هذه القطبية الثنائية، وفتح وتوسيع «بيكار» المشاركة الشعبية في كسر هذه المعادلة.
نحن نعرف جميعاً ان الحركة الوطنية الفلسطينية تعاني من مشكلات كبيرة، بل وأزمات متواصلة، والسبب الرئيسي في هذه المشكلات والأزمات هو تكلس بنيتها الفكرية والسياسية، إضافة الى انعكاس ذلك كله على بناها وهياكلها التنظيمية، ونعرف جيدا ان اليسار وبالذات يتحمل مسؤولية أزماته ومشكلاته لأنه لم يمتلك ثقافة الإقدام على شق الطريق، ولم يمتلك «شجاعة» الدفاع عن هويته، ولم يعرف او يجد الدفاع عن الفكر الذي ادعى تمثيله، والانتماء إليه، ونعرف جيدا انه أضاع هويته تحت «مبررات» المواقف السياسية، وأضاع دوره الثقافي والاجتماعي، وتخلى عن دوره في قيادة الشارع الوطني للمزاوجة العضوية بين البعد الوطني والاجتماعي للنضال الوطني، وان هذا اليسار قد دخل وادخل نفسه في مساومات أدت فيما أدت إليه الى التماهي مع حالة القطبية الثنائية الى هذه الدرجة او تلك وبهذا القدر او ذاك ما أدى في نهاية الأمر الى خسارة مضاعفة.
فلا هو استطاع من خلال هذا التماهي ان يغير او يؤثر ولا استطاع حتى ان يحافظ على دوره او على مكانته، وكانت النتيجة ان خسر اليسار الفرصة التاريخية، وخسر المكانة والدور، وخسر القدرة (حتى الآن) ان يعيد النظر بكل هذه التجربة المريرة.
أيعقل ان يكون البيان الأول، ومنذ سنوات وسنوات حول المخصصات والمستحقات - على أهميتها الكاملة - وأحقيتها المطلقة، ومشروعيتها الأكيدة - وان لا يكون هذا البيان حول واقع الأزمة الوطنية وكيفيات الخروج منها؟؟
وماذا لو انه لا توجد قضية من هذا النوع، فهل كنا سننتظر مشكلة من هذا النوع والقبيل، وعلى هذا المستوى من الأهمية والمصيرية، حتى يصدر بيان مشترك من قبل هذه القوى الثلاث؟؟؟
وكيف يمكن ان ينظر الناس الى هذا البيان، وكيف لهم ان يعولوا على دور اليسار في الإسهام الفاعل في حل المعضلات الوطنية الكبيرة طالما ان الذي بات يوحد اليسار، ومواقف اليسار، ويحدد دور وإسهام اليسار في «التضامن» المشترك ما بين قواه لاسترداد المخصصات!!؟
من حق هذه القوى ان تطالب بكل مستحقاتها دون أي انتقاص، لكن من حق جماهير اليسار ان تسأل عن حقوق الناس ومشكلاتهم وعن الأزمات الوطنية وتفاقمها، وعن عشرات القضايا التي تهم الناس وتستجيب لاحتياجاتهم.
وكيف للقوى الاجتماعية والمنظمات الأهلية، وعموم منظمات المجتمع المدني المنخرطة بصورة فاعلة وجدية، ان تثق بقدرة اليسار على الاضطلاع بدور قيادي فعال في التصدي للازمة الوطنية؟؟؟
على قوى اليسار ان تعيد النظر في دورها ومكانتها، وعليها تقع مسؤولية تاريخية في مراجعة هذا الدور من زاوية الإخلاص للفكر، ومن زاوية الهوية المستقلة، ومن زاوية شق الطريق أمام القوى الفاعلة في المجتمع الفلسطيني قبل ان تتحول الى هوامش سياسية بعد ان كان لها إسهاماتها الوطنية العظيمة.