لو كنت مكان الوزير عيساوي فريج، لاعتذرت على الملأ، أمام النائبين أيمن عودة وعايدة توما – سليمان، وأمام زملائهما، النواب في القائمة المشتركة، وأمام عشرات آلاف المصوتين للقائمة وداعميها.
ليس من حق الوزير فريج ممثل حزب ميرتس الصهيوني في حكومة بينيت – لبيد، أن يزايد على نوّاب القائمة المشتركة، لأنّهم أصروا على تقديم اقتراح قانون يطالب دولة إسرائيل بالاعتراف بمجزرة كفر قاسم، وبتحمل المسؤولية عن وقوعها؛ فأسلوبه الغاضب لم يزده احتراما، ولا تعابيره الفظّة والمستفزة التي هاجمهم بها، رفعت من مكانته.
في مثل هذا الأسبوع قبل 65 عاما، وتحديدا في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1956، قتلت، بدم بارد، كتيبة ما يسمى «حرس الحدود الإسرائيلي» سبعة وأربعين مواطنا عربيا من سكان قرية كفر قاسم؛ وكان من بين ضحايا تلك المجزرة أطفال وشيوخ ونساء، لم يقترفوا أي ذنب سوى أنهم وصلوا عند تخوم قريتهم وقت حظر التجوّل، الذي لم يعرفوا به قبل مغادرة بيوتهم في ساعات الصباح.
أذكر أننا طلاب كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس، تعلّمنا، قبل أربعين عاما، عمّا حصل في ذلك اليوم في كفر قاسم؛ بيد أن المحاضر لم يسمّها مجزرة، ولم يبدِ أي تحفظ أو انتقاد «لجهاز العدالة» الإسرائيلي، الذي برّأ قضاتُه قائدَ المنطقة، المدعو يشكا شدمي، من تهمة القتل العمد وأدانوه بتهمة «تجاوز الصلاحيات»، وحكموا عليه بالتوبيخ وبغرامة مقدارها قرش واحد؛ أصبح يعرف «بقرش شدمي» الذي اتخذه المواطنون العرب رمزا للتعبير عن سخطهم على جهاز القضاء الإسرائيلي، وعن مشاعرهم بفقدان الثقة بعدل الدولة تجاه مواطنيها العرب. لقد علّمونا في حينه أن الضابط الذي نفّذ أوامر قتل الأبرياء تجاوز صلاحياته، لأن «راية سوداء» كانت ترفرف عليها وكانت، لسوادها، توجب رفضها وعدم الالتزام بها. لم أصطدم في الماضي مع الوزير عيساوي فريج، الذي أكن له احتراما، ولا مع حزب ميرتس الذي ينتمي إليه منذ سنوات طويلة؛ وعلى الرغم من وجود اختلافات وخلافات سياسية واضحة بيننا، دأبتُ على التمييز بينهم وبين حزب العمل، وبينهم وبين سائر الأحزاب الصهيونية، لاسيما اليمينية منها والفاشية. أقول ذلك مقتنعا بأن الحالة الهستيرية التي وقع الوزير فريج تحت تأثيرها وأدت إلى هجومه غير المسبوق على نواب القائمة المشتركة، هي نتيجة للوضع غير الطبيعي الذي أفضى إلى استوزاره طوعا في حكومة يقف على رأسها زعيم متدين ويميني وتدعمها أحزاب يمينية عرف زعماؤها بمواقفهم العنصرية تجاه المواطنين العرب والعدائية الاستيطانية تجاه الفلسطينيين وأراضيهم. ما شاهدناه من على منصة الكنيست يوم الأربعاء الفائت، كان في الواقع انعكاسا لتلك الحالة السياسية الشاذة، التي أتوقع أنها ستتكرر في المستقبل؛ وهي الحالة نفسها التي دفعت، عمليا نواب الحركة الإسلامية، بعد قرارهم بدعم هذه الحكومة، للتصرف بعكس ما كان يتوقع منهم، أو بالتنكر التام لممارسات الحكومة ولخططها التوسعية في القدس، وفي الأراضي الفلسطينية، وتشجيعها لاقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى، وفي استمرار تنفيذ سياساتها العامة في معظم الميادين، وفق المفاهيم السلطوية الصهيونية القديمة، التي يمكن أن نعبر عنها، مجازا، بالاستعانة  «بقرش شدمي «وبرايته السوداء التي خرقتها العواصف والرياح، ولم يبق منها الا غبار الرصاص والأسى.

من المؤسف حقا أن يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب إسلاميين وأحزاب «يسارية»

لقد صرّح الوزير فريج بأن عرض القانون من قبل النائبة عايدة توما للتصويت في قاعة الكنيست قد تم بغرض إحراجه، وهذا الادعاء هو نفسه الذي لجأ إليه نواب الحركة الإسلامية، عندما عارضوا مشاريع قوانين قدّمها نواب القائمة المشتركة وأسقطوها بحجة الإحراج أمام حلفائهم من أحزاب اليمين. فهل علينا إذن أن نقبل، باسم ذلك الحرج، تهافت نواب الحركة الإسلامية ودعمهم المطلق لحكومة إسرائيل؟ أو أن نبرر للوزير فريج وغيره مثل تلك الانزلاقات، واستعمال اللغة واتهامات اليمينيين نفسها بحق القادة العرب، لدرجة أنه حاز تصفيق العنصري ايتمار بن جبير؟
نعيش، نحن المواطنين العرب، في خضم أزمة حقيقية؛ وما نراه يتداعى أمامنا، منذ انتهاء عملية الانتخابات الأخيرة، وإقامة حكومة بينيت – لبيد، بدعم من الحركة الإسلامية وحزب ميرتس، ما هي إلا أعراض لتلك الازمة الخطيرة ولنتائجها.
واذا عدنا لقضية المجزرة في كفر قاسم، فسنجد أنها حظيت عبر السنين بإدانات شعبية ومؤسساتية إسرائيلية واسعة، بخلاف ما يدور من نقاشات داخل المجتمع الإسرائيلي حول مجازر أخرى نفذتها المنظمات الصهيونية، على اختلافها، بحق المواطنين الفلسطينيين، في قرى ومدن عديدة خلال عامي 1947 و1948. ويكفينا أن نتذكر هنا خطوة رئيس الدولة السابق رؤوبين ريفلين، الذي قرر في عام 2014، مشاركة أهالي كفر قاسم في الذكرى الثامنة والخمسين للمجزرة، رغم تحذيرات مستشاريه، ووقف أمام النصب التذكاري وأعلن: «جئت اليكم اليوم، كفرد من أبناء الشعب اليهودي، وكرئيس لدولة إسرائيل، كي أقف أمامكم، عائلات الضحايا والجرحى، لأتألم معكم في هذه الذكرى».  لقد كان ريفلين الرئيس الإسرائيلي الأول الذي بادر بنفسه لزيارة كفر قاسم في ذكرى وجعها، محاولا تضميد بعض من جرحها، الذي ما زال مفتوحا؛ فلماذا تغيب هذه الحقيقة عن نواب الإسلامية وعن وزراء ميرتس؟ ولماذا لم يحاولوا إقناع حكومتهم بدعم القانون وإغلاق واحدة من دوائر الدم الكثيرة في تاريخ السيرة والنسيرة الفلسطينية؟
انني أسأل وأعرف الجواب؛ فنهج نواب الإسلامية الذرائعي، وتحييد دور النائب مازن غنايم الوافد من أحضان القومية التجمعية، ومهادنة حزب «ميرتس» لسياسة بينيت- لبيد، أو مقايضتهم مصلحة بمصلحة، سيتسببوا بتقويض شروط تعاقدنا التاريخية مع الدولة، وإلى تغييب أحد أركان تلك الشروط، وهو دور هويتنا الجامعة وما ترتب ويترتب عليها من حقوق وواجبات، في ترسيم حدود علاقتنا مع النظام السياسي المركزي. من المؤسف حقا أن يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب إسلاميين وأحزاب «يسارية» وذلك ساعة اختارت فيه جريدة «هآرتس» أن تخصص افتتاحية عددها الصادر يوم الأربعاء الماضي تحت عنوان «اعتراف واعتذار وتعلم» وتختتمها بأمنية قالت فيها: «الآن، مع التحالف الحالي في الكنيست، هناك فرصة لتصحيح الظلم التاريخي والاعتراف رسميا بمسؤولية الدولة عن هذه الجريمة، والاعتذار الكامل والصادق لعائلات الضحايا ودمج قصة المجزرة في المناهج الدراسية». ولكن بينيت وأمثاله، من أهل اليمين والعنصريين، يعرفون معنى اعتراف دولة إسرائيل بمجزرة واحدة، ويستشعرون ما قد يترتب على تحمّلهم الرسمي لمسؤوليتها، ولذلك، لأنهم يعرفون، أنهم سوف يستمرون بمحاولاتهم لإجهاض كل مبادرة من شأنها أن تغلق هذه الدائرة، وكيلا تفتح أخرى.
لم يتردد الرئيس ريفلين في عام 2014 ولم يحرج مثل حرجكم اليوم، حين أعلن أمام العالم وقال: «ما حصل في كفر قاسم هو جريمة نكراء يتوجب علينا أن ننظر إليها مباشرة، ولزاما علينا أن نعلّم الأجيال القادمة عن هذا الفصل العصيب وعن خلاصاته».. هكذا قالها بدون تأتأة وبلا مناورات. أما عندنا فمن لم يتعلم من «قرش شدمي» لن تنقذه الخطط الخماسية ولا المليارات.