تركيا وإيران، لاعبان إقليميان حضرا بقوة في معظم، إن لم نقل جميع، أزمات المنطقة وملفاتها المفتوحة، ومن أجل تدعيم هذا الحضور وتعظيمه، عمد البلدان إلى تبني "رزمة" إستراتيجيات متنوعة، بعضها ناعم: الإغاثة والمساعدات والتبشير الديني – المذهبي، وبعضها خشن: التدخل العسكري المباشر، دعم مليشيات مسلحة، نشر قواعد عسكرية، اللجوء للقوة وعدم الاكتفاء بالتلويح بها.
بخلاف تركيا، لجأت إيران مبكراً إلى تفعيل إستراتيجية تمكين الكيانات الموازية في الدول والساحات المستهدفة، سواء من خلال خلق تنظيمات عقائدية – سياسية – مسلحة أو تدعيم ما هو قائم منها، بالذات تلك التي تشترك معها بروابط مذهبية جزئياً أو كلياً... تركيا تخلفت عن ركب إيران في هذا المضمار، لكن ما أن اندلع الربيع العربي، حتى شرعت في تبني الإستراتيجية ذاتها.
وإذ شكلت هذه الكيانات والتنظيمات، أجنحة حلّق بها البلدان خارج حدودهما، فقد وفرت في الوقت ذاته، قواعد ارتكاز لنفوذ مستدام، وبكلفة تقل بكثير عن كلف التدخل العسكري المباشر، وكانت حروب الوكالة هي الثمرة المرة لهذه الإستراتيجية التي برعت في توظيفها القوتان الإقليميتان، أكثر من دول وحكومات عربية، سلكت الطريق ذاته، إن لأسباب دفاعية – وقائية، أو لأسباب تتعلق بأوهام القوة والأدوار الإقليمية المتورمة: السعودية، قطر والإمارات.
لكن حصاد عشرية دامية من الحروب الأهلية والحروب بالوكالة والتدخلات العسكرية الخشنة، وحالة الإنهاك التي عاشتها المحاور الإقليمية المتصارعة، وحالة الانهيار التي تعصف بساحات المواجهة، دولاً ومجتمعات، أوصلت هذه اللعبة إلى خواتيمها، وأدخلتها في آخر فصولها، كما يعتقد كثيرون، سيما أن أجنحة النفوذ لكل من تركيا وإيران، تبدو آخذةً في الانكسار، وقواعد ارتكاز الدولتين في دولنا ومجتمعاتنا العربية، آخذة في الاهتزاز، فكيف ذلك؟

أجنحة إيران وقواعدها
طوال عشريات ثلاث، عمد نظام ولاية الفقيه في طهران، إلى تحويل إيران إلى دولة المركز للعالم الإسلامي الشيعي، نجح في بعض المجتمعات، وفشل في غيرها، ولتعزيز دور إيران الإقليمي الممتد من قزوين إلى ضفاف المتوسط، كانت البداية من لبنان الذي يشكل عربه الشيعة أزيد من ثلث سكانه وفقاً لتقديرات مختلفة، والمنهك بحروبه الداخلية وحروب الآخرين عليه، عمدت إلى تدعيم وتمكين الثنائي الشيعي: حزب الله وحركة أمل، قبل أن تعطي الحزب "وكالة حصرية" لتمثيلها في بلاد الأرز، وللقيام بأدوار إقليمية نيابة عنها وعن حلفائها... أحدث تصريحات السيد حسن نصر الله كشفت عن امتلاك الحزب لمئة ألف مقاتل تحت السلاح، بما يعادل ضعف القوة العددية للجيش اللبناني، مع فارق نوعي لصالح الحزب لجهة نوعية التسلح والتدريب و"العقيدة القتالية... وإذا أضفنا إلى هؤلاء، قوة حركة أمل، يمكننا القول: إن ميزان القوى الداخلي في لبنان يميل على نحو طاغٍ لصالح حلفاء طهران.
وما أن سقط نظام الرئيس الراحل صدام حسين في العراق إثر الغزو الأميركي لبلاد الرافدين عام 2003، حتى هرعت طهران لاستغلال هذه السانحة التاريخية، أولاً لتصفية الحساب مع خصم لدود، حاربها لثمانية أعوام متتالية، مستغلة الإدارة غير الرشيدة لعراق ما بعد صدام حسين، وتحديداً، قرارات بريمر بحل الجيش العراقي واجتثاث البعث، وبناء أطر وهياكل عسكرية وأمنية جديدة، لم تصمد أياماً في وجه زحف "داعش" على الموصل والمحافظات الغربية.
بدأت إيران بدعم ميليشيات مسلحة تتبع فصائل شيعية، وتحت شعار "مقاومة الاحتلال الأميركي" انتفخت هذا الميلشيات وباتت قوة تعادل قوة الدولة الناشئة، واختلط السياسي بالمليشيوي في تركيبة الطبقة السياسية العراقية الجديدة. وبعد فتوى "الجهاد الكفائي" لصد زحف "داعش" في العراق، نشأ الحشد الشعبي، المكون أساساً من الأحزاب والمليشيات ذاتها، وتحول إلى قوة ضاربة (170 ألف مقاتل) كاملي التسليح والتدريب، ونجحت إيران في ضمان ولاء وتبعية عدد من فصائله الأساسية، ليشكل قاعدة ارتكاز للنفوذ الإيراني.
وحين وصلت شرارات الربيع العربي إلى كل من سورية واليمن (وبدرجة أقل البحرين)، قفزت إيران لتفعيل إستراتيجيتها المفضّلة: خلق كيانات موازية تشكل قواعد ارتكاز لنفوذ مستدام. في اليمن جرى تسريع مسار احتواء الحوثيين وتعميق روابطهم المذهبية بدولة المركز الشيعي، فضلاً عن الدعم التسليحي والتدريبي الذي لم يتوقف. في سورية، وبعد الانهيارات التي سجلها الجيش والدولة السوريين في بدايات الأزمة، تم استحضار ميليشيات خارجية (زينبيّون وفاطميون) جنباً إلى جنب مع محاولات خلق ميليشيات محلية، وتمت الاستعانة بـ"حزب الله" إلى أبعد الحدود لتحقيق هذه الغاية، وبقية القصة معروفة.
اليوم، تواجه إيران عنتاً ومشقة مع معظم، وجميع، أجنحتها في هذه الدول، وليس مستبعداً أن يستحدث التاريخ استدارة كبرى على هذا المسار. الحشد الشعبي سجل خسارة مُذلّة في انتخابات 2021، وليس مستبعداً أن يقوم البرلمان العراقي القادم، بطرح مشاريع قوانين تتصل بمستقبل الحشد وتركيبته وارتباطاته وتمويله وإعادة هيكلته ودمجه. فيما يغرق "حزب الله" اللبناني في "زواريب" السياسة المحلية اللبنانية، وسط حالة انفضاض مسيحي – إسلامي (سني)، وتعالي أصوات شيعية مستقلة عن "الثنائي" وخارج دائرته، ومن دون أن يقوى الحزب على الإفادة من "فائض القوة" التي يتمتع بها، فالحزب الذي نجح في خلق "ميزان ردع متبادل" مع إسرائيل، يعجز عن الرد على الضربات المتلاحقة التي تلقاها مؤخراً في خلدة (السنة) وشويّا (دروز) والطيونة – عين الرمانة (موارنة). لا مكان في هذه المواجهات لترسانة "حزب الله" الصاروخية، وإن استمر الحال على هذا المنوال، ولم يخرج الحزب من معادلة الداخل اللبناني، سيصيب الصدأ ترسانته الصاروخية، كما أصاب من قبل ترسانات لبنانية وفلسطينية كانت ملأى بمختلف صنوف الأسلحة.
وحده اليمن يسجل نجاحات لأصدقاء إيران وحلفائها: أنصار الله الحوثيين، الذين يقفون اليوم على عتبات مأرب (أم المعارك اليمنية)، لكن الأسئلة التي لا يتعين أن تغيب عن البال، إنما تتعلق بموقع ومكانة الحوثيين، في مرحلة ما بعد الحرب، وفي حال تقدمت عملية السلام، وهو أمرٌ يبدو حتمياً في نهاية المطاف، وكيف ستكون علاقات هذه الجماعة ببقية المكونات اليمنية، وكيف ستتعامل معها، مختلف كيانات ومكونات المجتمع اليمني، وما مصيرها عندما تُخلي صناديق الرصاص مكانها لصالح صناديق الاقتراع.
لا يعني ذلك كله أن إيران فقدت قواعد ارتكازها في الإقليم، أو أن أجنحتها قد تكسرت وحُرقت، لكن ليس من الحصافة بشيء، إغماض الأعين عن اتجاه متراجع لنفوذ إيران وكياناتها الموازية في الإقليم، سيما إن جاءت نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة، بحكومة تواصل ما بدأه مصطفى الكاظمي من انفتاح على الجوار العربي، وسعي لاستحداث التوازن في علاقات العراق الإقليمية والدولية، أو إن تواصلت مسيرة الانفتاح العربي على سورية بغرض استعادتها، وهو مسار يتقدم رغم "قانون قيصر"، ويلقى تشجيعاً من "قيصر الكرملين" الذي يدفع بقوة من أجل إحراز تقدم، ولو جزئي، في مسار الحل السياسي – الدستوري لسورية، لتسريع تعويم النظام، ومعه ملفات إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية.

نهاية "العثمانية الجديدة"
يتعين التمييز بين مرحلتين من حكم العدالة والتنمية في تركيا، الأولى، مرحلة الصعود، واستغرقت العشرية الأولى من حكمه، وتميزت باللجوء لـ"الأدوات الناعمة" و"قوة النموذج" و"صفر مشاكل" و"المعجزة الاقتصادية" و"الاتجاه شرقاً وجنوباً"، وغير ذلك مما احتواه قاموس أحمد داود أوغلو من مفردات ونظريات. والثانية، ويمكن وصفها بمرحلة الهبوط، وتغطي العشرية الثانية، عشرية الربيع العربي: قوة خشنة، "عثمانية جديدة"، خطاب ديني مذهبي متدثر بنزعة قومية طورانية، تدخل عسكري مباشر، نشر قواعد عسكرية من شرق المتوسط إلى شمال أفريقيا والخليج وشمال سورية والعراق، خلق ميليشيات وكيانات موازية (سورية، العراق وليبيا وأذربيجان)، اعتماد "المرتزقة"، والنتيجة: صفر أصدقاء.
عشرية الربيع العربي، كانت "المصيدة" التي وقع فيها الحزب الحاكم ورئيسه رجب طيب أردوغان. صعود الإسلاميين (الإخوان) للحكم وتعاظم أدوارهم في معظم الدول والمجتمعات العربية غذّى هذا الوهم وعزز تلك الأحلام، ووجود قطر، الإمارة الصغيرة بمساحتها وسكانها، الغنية بمواردها، على ذات الخط: خط تدعيم الإخوان، مكّن تركيا من نشر قواعد ارتكاز في معظم دول عربية، بعضها كان ميلشيوياً – مسلحاً بالنظر لفشل الدولة الوطنية وغيابها، وبعضها الآخر وفر رصيداً معنوياً للدور التركي الساعي للهيمنة.
لكن عقارب ساعة "الإخوان" ستدور للوراء، بعد منتصف 2013، وسيخسرون الحكم في أكبر دولة عربية: مصر، وبعد ذلك بداية هبوط وتراجع تيارات الإسلام السياسي في المجتمع العربي: النهضة في تونس ستفقد خلال عشر سنوات ثلثي طاقتها التصويتية (قبل إجراءات الرئيس سعيّد الاستثنائية)، العدالة والتنمية في المغرب سيختتم عشر سنوات من الحكم بهزيمة أقرب للانهيار (13 مقعداً فقط). إخوان اليمن (التجمع اليمني للإصلاح) على وشك خسارة أكبر – وربما آخر - معاقلهم في مأرب... إخوان البحرين يقرؤون مع الملك ونظامه من الصفحة ذاتها... إخوان سورية لا مع المعارضة بخير ولا مع النظام بخير، ودورها في تناقص ملموس. إخوان العراق لم يحصلوا على مقعد واحد في انتخابات 2021. إخوان الأردن لم يتمكنوا من تشكيل كتلة برلمانية بعد انتخابات 2020 (8 مقاعد فقط والحد الأدنى للكتلة 13 مقعداً)، و"حماس" تختنق بقطاع غزة الذي يختنق بها كذلك، وجل أولوياتها "العودة إلى ما كان عليه الحال قبل 11 أيار الفائت، أي قبل الحرب الأخيرة على غزة".
في الوقت ذاته، تُجري قطر، حليفة تركيا الرسمية العربية الوحيدة، إعادة تموضع على خرائط المحاور والتحالفات في الإقليم، وتعيد تعريف دورها الإقليمي مقدمةً نفسها كمنصة للحوار والوساطة بين الأطراف، بعد أن كانت طرفاً خشناً في معظم أزمات الإقليم، بالذات سورية. الأمر الذي يقطع مع سياسة اتبعت لسنوات عشر، لم تنل منها الدوحة سوى تجربة حصار "الرباعي العربي" الصادمة.
تركيا أيضاً تخسر قواعد ارتكازها، وتسهم ضائقتها الاقتصادية وتدهور عملتها الوطنية، في إضعاف شهيتها للتوسع والتبشير بعثمانية جديدة أو قديمة، فيما علاقاتها مع المراكز الدولية الفاعلة، من موسكو إلى واشنطن مروراً ببروكسل، لا تسمح لخيالها الجامح بالذهاب بعيداً في رسم خرائط التوسع الإمبراطورية.
يبدو أن لحظة الحقيقة، والنزول عن قمة الشجرة العالية تدهم كل من طهران وأنقرة، بأشكال مختلفة ومقادير متفاوتة، لكأن مرحلة الأحلام الإمبراطورية على وشك أن تنطوي، ونافذة الفرص التي توفرت للبلدين للتوسع والتمدد، قد استُنفدت، وما كان ذخراً لهما من قبل، بدأ يتحول إلى عبء عليهما.