شاركت قبل أيام في ندوة نظمها، مشكورًا، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، استضاف فيها إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، لعرض رؤية حركة حماس المستقبلية للنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني.
كان موضوع الحوار في منتهى الأهمية، إذ تناول هنية رؤية “حماس” للنهوض بالمشروع الوطني، في ظل التحديات الكبرى التي تواجه شعبنا وقضيته الوطنية. وتضمنت الرؤية عرضًا شاملًا يستحق الاهتمام والحوار، وهناك نقاط كثيرة متفق عليها وتضع الأصبع على الجرح، فيما تناولت مداخلتي عددًا من الملاحظات.
ماهية المشروع الوطني
أول ملاحظة تتعلق بماهية المشروع الوطني الذي تستهدف حركة حماس النهوض به، هل هو تحرير فلسطين والعودة، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية أو غيرها، وكيف تتصور إمكانية حدوث ذلك مرة واحدة، أم على مراحل؟ وهل هدف إقامة الدولة على حدود67 يخدم ذلك أم يتناقض معه، وهل تحقيق هذا المشروع ضمن قدرات الشعب الفلسطيني وحده؟ وما موقع شعبنا في أراضي 48، وكذلك اليهود الإسرائيليين في المشروع الذي تطرحه حماس؟
وترجع هذه الملاحظة إلى أن “حماس” لم تول هذا الأمر الأهمية التي يستحقها، وأنا أقدر أن الأخ أبو العبد أولاها أهمية في مداخلته، كما لوحظ أن حماس في الأشهر الأخيرة لم تعدْ تتطرق إلى برنامج إقامة الدولة على حدود 67، فهل تخلت عنه الآن، لأن هناك تصريحات من قيادتها تضمنت بأن ما بعد معركة سيف القدس يختلف عما قبلها، وأن المطلوب الانتهاء من الجدال حول برنامج الدولة على حدود 67 والعودة إلى الأصول؟ وما الموقف من كل ذلك؟
وهذه الملاحظة تقودنا إلى نقطة أهم بكثير، وهي التناقض ما بين برنامج “حماس”، سواء المتضمن في ميثاقها القديم أو في الوثيقة السياسية المقرة في أيار 2017، وبرنامج الحد الأدنى المشترك. وهنا، لا يكفي القول بأن برنامج الحد الأدنى المشترك ليس بديلًا ولا يتناقض مع برنامج الحركة، فالتناقض قائم في الأهداف والإستراتيجيات وأشكال النضال، خصوصًا أنّ برنامج الحد الأدنى مع طرف أساسي يملك زمام القيادة المتنفذة في السلطة والمنظمة، وهو لا يزال يعترف بأوسلو والتزاماته، ويعمل بعد الانتفاضة الثانية واغتيال ياسر عرفات ضمن سقف أقل من سقف أوسلو، ففي أوسلو تنسيق أمني وتبعية اقتصادية واعتراف بحق إسرائيل في الوجود ضمن عملية سياسية فيها التزامات متبادلة، وكان هناك توهم بأنها ستقود إلى دولة فلسطينية. أما بعد ذلك فبقيت الالتزامات من دون عملية سياسية، وبهدف الحفاظ على السلطة.
إن تبرير حماس بأنها دخلت السلطة بعد أن مات أوسلو أو لم يعد يحكم النظام السياسي لا يقنع أحدًا، لأن أوسلو أصبح يمثل الحد الأقصى، فسقف السلطة انخفض ما بعد اغتيال الشهيد ياسر عرفات عن سقف أوسلو.
فعلى سبيل المثال، يتضمن البرنامج المشترك خيار المفاوضات، وفوضت “حماس” اللجنة التنفيذية ورئيسها في التفاوض كما جاء في وثيقة الأسرى وبرنامج حكومة الوحدة الوطنية، بل أكثر من ذلك أبدت الحركة استعدادها لاحترام الاتفاقيات، ووفرت شرعيةً لحكومة الوفاق الوطني التي أكدت التزامات المنظمة.
“حماس” ولعبة السلطة والمنظمة
تستند هذه الملاحظة إلى الملاحظة الأولى وتبني عليها، فحماس عند قيامها طرحت نفسها بديلًا من المنظمة، إلى أن قررت بعد إعلان القاهرة، في العام 2005، المشاركة في المنظمة والسلطة، ومنذ ذلك الحين سعت من أجل الوحدة الوطنية، ولكن من دون أن تضع المشروع الوطني والبرنامج السياسي المشترك على طاولة الحوار، بوصفه حجر الزاوية، ولم تعتبر ذلك شرطًا للوحدة، وكان يتم تجنب هذا الموضوع الذي من المفترض أن لا وحدة وطنية وشراكة حقيقية من دونه، بحجة أن الخلافات واسعة، ويمكن تأخير البحث والبت فيه، وهذا قاد إلى الدخول في السلطة ومواصلة العمل للدخول إلى المنظمة، مع التغاضي عن أن سلطة أوسلو والالتزامات المترتبة عليه ماضية في طريقها رغم إعلانها عددًا لا يحصى من المرات عن وقف التنسيق الأمني، ووقف الاتفاقيات، وتسليم مفاتيح السلطة، والتهديد بسحب الاعتراف بإسرائيل.
إن خطورة ما سبق أن “حماس” قررت المشاركة في السلطة والمنظمة والانخراط في اللعبة القائمة وفق القواعد القائمة من دون تغييرها، وكأن المشكلة تكمن فقط في اللاعبين، وليس في قواعد اللعبة وأهدافها، على أمل تغييرها من الداخل من دون أن تملك أدوات التغيير، والقدرة على تحقيقه، ما أدى إلى تعايش مع الواقع، وتنازلات لا حصر لها ظهرت في تذبذب مواقف “حماس” ما بين العمل على المشاركة والمغالبة، أي ما بين المحاصصة والتقاسم الثنائي مع حركة فتح بتوقيع الاتفاقات التي تتضمن تفويض الرئيس بالدعوة لعقد اجتماع الإطار القيادي المؤقت، وترؤس حكومة الوحدة الوطنية، وتشكيل حكومة رامي الحمد الله المعترفة بأوسلو، والموافقة على تمكينها، إضافة إلى الاتفاق على تشكيل قائمة مشتركة وأن يكون الرئيس مرشحًا متوافقًا عليه في الانتخابات الرئاسية التي كان متفقًا على إجرائها وفق تفاهمات إسطنبول، وما بين التخوين والمطالبة بالإسقاط والتغيير الشامل، وإيجاد البديل والمرجعية الجديدة المتمثلة بقيادة انتقالية.
الجمع بين السلطة والمقاومة المسلحة
قادت تجربة السعي للانخراط في السلطة ومحاولة الانخراط في المنظمة، من دون اتفاق على الأهداف وأشكال النضال وقواعد العمل، وغيرها من الأسباب، إلى الانقسام، جراء عدم الاستعداد للشراكة من الطرفين، فطرف يريد الاحتفاظ بالقيادة وإسقاط سلطة “حماس” في قطاع غزة؛ وطرف يريد الاحتفاظ بسلطته وتحصيل مكاسب جديدة في السلطة في الضفة والمنظمة. ومن دون تجاوز هذه المعضلة بالاتفاق على شراكة كاملة في المنظمة والسلطة من دون تخوين ولا تكفير ولا احتكار للحقيقة والدين والوطنية لن يحدث تقدم.
وهنا يبرز تساؤل حول محاولة الجمع ما بين السلطة والمقاومة المسلحة في ظل المعطيات الراهنة التي جعلت المقاومة تبدو كأنها أداة لخدمة السلطة من أجل رفع الحصار أو تخفيفه، أكثر ما هي إستراتيجية للتحرير، لذلك أصبحت التهدئة سياسةً عامةً تتخللها عمليات مقاومة مسلحة متفرقة، أو مواجهات عسكرية مع الاحتلال كل سنوات عدة سقفها تهدئة مقابل تخفيف الحصار؟
بعد أكثر من 14 عامًا على الانقسام، ألا نحتاج إلى دراسة تجربة الانخراط في سلطة مقيدة بالتزامات مجحفة، والسعي للجمع ما بينها وبين المقاومة المسلحة، من دون – على الأقل – اشتراط تغييرها؟ ألم يكن هذا خاطئًا في المحصلة رغم بعض إنجازاته؟
ألم تقيد سيطرة المقاومة على السلطة في غزة إمكانية المقاومة المسلحة حتى في الضفة، كما يظهر في المعادلة التي يربط بها الاحتلال ما بين التهدئة في الضفة وغزة بتخفيف الحصار، وكما ظهر في شن العدوان على قطاع غزة في العام 2014، بعد عملية أسر المستوطنين الثلاثة وقتلهم في الخليل.
وهنا أتوجه بالرأي التالي، وهو أن تجربة قطاع غزة تحت سيطرة “حماس” رغم الصمود العظيم والمقاومة الباسلة والشجاعة، وما تحقق من إنجازات، بحاجة إلى تقييم لجهة ضرورة توفر الحكم الرشيد، والشراكة والديمقراطية والانتخابات الدورية المحلية وفي النقابات والجامعات … إلخ، ولجهة العلاقة مع الاحتلال الذي أخذ يحسب ألف حساب لثمن إعادة احتلال قطاع غزة، وهذا دفعه إلى التراجع عن بعض مطالبه من “حماس”، مثل التخلي عن ضرورة الالتزام بشروط اللجنة الرباعية، ونزع سلاح المقاومة وعدم تطويره، والتوقف عن حفر الأنفاق على الحدود، ويتجه للموافقة على عدم الربط بين إعادة الإعمار والتهدئة وصفقة تبادل الأسرى.
إلا أن إسرائيل من الجهة الأخرى نجحت في حصار المقاومة وتعطيلها وربطها باحتياجات السلطة في القطاع أكثر من أي شيء آخر، حيث دفعت “حماس” إلى الانهماك في السعي الدائم للتهدئة مقابل تخفيف الحصار، في الوقت الذي حافظت فيه إسرائيل على حصارها للقطاع، والأهم حافظت على الانقسام وعمقته.
محاصصة أم شراكة؟
تطرح “حماس” اللجوء إلى الانتخابات أو التوافق على تشكيل قيادة انتقالية، رغم أنّ الاتفاق على الأهداف والمشروع الوطني، أو على البرنامج الوطني على الأقل أولًا مفترض أن يحتل الأولوية، لكن التجربة وحقائق الواقع العنيد والتجارب الماضية أثبتت أيضًا تعذر ذلك. فالانتخابات في ظل الانقسام وتحت الاحتلال، ومن دون التوافق على برنامج وطني وأسس الشراكة، لن تجري على الأغلب، وإن جرت ستكون على أساس اتفاق محاصصة ثنائي ضمن توافق إسرائيلي إقليمي أميركي، وأكثر ما يمكن أن تؤدي إليه الانتخابات – إذا حصلت – إدارة الانقسام، ولن تكون حرةً ونزيهةً وتحترم نتائجها إذا جرت من دون توافق ولا محاصصة، فالمطلوب إنهاء الانقسام أولًا ضمن حل الرزمة الشاملة.
كما أن الاتفاق على تشكيل قيادة انتقالية بالتوافق مستبعد جدًا في ظل التباعد القائم، الذي يستمد جذوره من إسرائيل، اللاعب الرئيسي، ومن أطراف فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية، ما يتطلب من “حماس” وغيرها من الفصائل والنخبة الإجابة عن سؤال ما العمل؟
المخرج وفق اعتقادي أن تساهم “حماس” في بلورة رؤية شاملة وإستراتيجيات متعددة متكاملة، على أساس الشراكة الكاملة من دون استبدال هيمنة فصيل بآخر، تضم القوى والمجموعات والمؤسسات والأفراد التي تريد إحياء المشروع الوطني، والاتفاق على برنامج القواسم المشتركة من دون تخاذل ولا تهور ولا أوهام ولا حسابات خاسرة، على أن تشكل جبهةً واسعةً هدفها ليس الإطاحة والإسقاط ولا التنازع على التمثيل، ولا تقديم بديل يقصي الآخرين، وإنما الضغط السياسي والجماهيري المتراكم إلى أن يصل إلى فرض إقامة شراكة كاملة في المنظمة والسلطة.
كما على”حماس” أن تبدأ بالعمل على تحويل السلطة في القطاع إلى سلطة تشاركية، وتجسيد وحدة المقاومة ميدانيًا، وضرب المثل الوحدوي الوطني التشاركي المنتج والفاعل في كل المجالات، والعمل على أساس تطبيق حل الرزمة الشاملة التي تطبق بالتوازي والتزامن، ومفتاحها الاتفاق على أسس الشراكة والبرنامج السياسي، وتتضمن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وتغيير السلطة ووضع خطة للتخلص من التزاماتها، ونقل أدوارها السياسية إلى المنظمة، التي بحاجة إلى إعادة بناء مؤسساتها على أساس إحياء المشروع الوطني، ومن خلال الديمقراطية التوافقية والانتخابات حيثما كان ممكنًا، وعبر التوافق الوطني حينما يتعذر إجراء الانتخابات.
ملاحظة أخرى، أليس من الخطأ زيارة “حماس” إلى المغرب المطبع مع الكيان الصهيوني عبر بوابة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم حينها؟
قالها محمود درويش سابقًا: “وأهلي كلما شيدوا قلعةً هدموها” ويتردد صداها الآن، وبعد مضي أكثر من خمسة أشهر على هبة فلسطين الشاملة ومعركة سيف القدس، فبدلًا من جني الثمار السياسية تعزز الانقسام وبتنا ندور في دوامة بقاء السلطة مقابل التنسيق والتعاون الأمني، والاقتصاد والتسهيلات مقابل تهدئة مؤقتة أو طويلة الأمد.
أضعنا أو نكاد نضيّع فرصةً مهمةً لالتقاط اللحظة التاريخية التي وفرها أيار 2021، والتي مثلت بربطها للقدس والأقصى بغزة والمقاومة عودة الوعي ووحدة الشعب والأرض والقضية، وعودة لخطاب التحرر الوطني خارج متاهة البحث عن تسوية لا يريدها العدو، وأعادت الاعتبار للمشروع الوطني الذي يقوم على وضع هدف نهائي يستند إلى الحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية والسياسية، وليس إلى موازين القوى، ويتضمن حلًا للمسألة اليهودية، فلا يمكن تجاهل مسألة وجود 7 مليون يهودي ولا التفكير برميهم بالبحر، ووضع خيارات وبدائل وبرامج مرحلية على طريق تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة من أجل إنجاز الهدف النهائي، من دون التخلي عن المبادئ والحقوق والمصلحة العامة.