بعد انطلاق التظاهرات الاحتجاجية الرافضة لنتيجة الانتخابات العراقية الأخيرة، وقعت محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، عبر استهداف منزله بطائرات مسيرة، بما يعني أن حالة الفوضى السياسية في العراق ما زالت قائمة رغم مرور ثمانية عشر عاما على احتلال القوات الأميركية للعراق، وإسقاط نظامه البعثي السابق الذي كان يترأسه صدام حسين، بحجة إقامة نظام ديمقراطي، لم يتحقق في الحقيقة، فضلا عن أنه قوض أركان الدولة نفسها، وأضعف وحدتها الداخلية، ونزع عن العراق ما كان يتمتع به من منعة تجاه الجيران، بل ومن نفوذ إقليمي خاصة على الصعيد العربي.
والحقيقة أن كل ما حدث من تغيير على النظام العراقي، كان شكليا بالأساس، فقد قامت أميركا أولا بتحويل العراق إلى «دولة فدرالية» بين العرب والأكراد، عبر منح المناطق الكردية حكما ذاتيا واسعا، مقابل فتح حدود الإقليم للوجود الإسرائيلي، خاصة على الصعيد الاستخباراتي، حيث تعتبر إسرائيل وجود موطئ قدم استخباراتي لها في الإقليم أمرا مهما جدا، في الوصول الى معلومات وأهداف في كل من إيران وسورية، بما دفع إيران إلى اتهام الإقليم قبل وقت بتسهيل مهمة الإسرائيليين في تنفيذ عمليات الاغتيال بحق الشخصيات الإيرانية التي قامت إسرائيل باغتيالها.
ثم قامت أميركا بتوزيع كعكة الحكم في نظام ما بعد صدام حسين، بين نخب الطوائف والإثنيات، خاصة العرب الشيعة والسنة والأكراد، وجعلت من نظام الحكم برلمانيا، حيث صار منصب الرئيس الذي منح للأكراد شكليا، فيما منح المنصب الأهم وهو رئيس الوزراء للشيعة، ورئيس مجلس النواب للسنة. وهكذا قاربت أميركا النظام العراقي الحالي مع النظام الطائفي اللبناني، الذي كانت فرنسا قد شكلته عشية خروجها وإعلان استقلال لبنان منتصف أربعينيات القرن الماضي.
لكن أميركا «هندست» النظام الطائفي العراقي وبقيت موجودة في العراق، خاصة في المنطقة الخضراء، في وسط العاصمة بغداد، وبالطبع فإنها نظرت للحظة احتلالها ولحظة إسقاط نظام صدام حسين، فشكلت نظاما، لن يكون مناسبا لوقت طويل للبلد، فالنظام الطائفي نفسه كابح للتطور، ويبقي على عدم المساواة بين أفراد المجتمع، لا في الحقوق ولا في الواجبات، لذلك فإن العراق بحاجة ماسة أولا الى خروج ليس فقط الجنود الأميركيين، بل والى رفع الولايات المتحدة يدها عن التدخل في شؤون البلاد، والتعامل معها كما لو كانت محمية أميركية، ومن ثم ثانيا، الى نظام مدني حديث لا مكان للطائفية فيه، بل يقوم على أساس المساواة التامة بين مواطنيه.
أما أن يتظاهر الناس ضد نتائج الانتخابات، فهذا يعني أن الواقع ما زال معقدا، وأن جهدا كبيرا يجب أن يبذل من أجل إشاعة الثقافة الديمقراطية، بحيث يتم وضع حد لكل مظاهر «الانقلاب» التي رأت في إسقاط نظام صدام حسين، مجرد تغيير حكم ديكتاتوري بآخر يتشكل على طريق الديكتاتورية المضادة، او تبديل حكم طائفة بطائفة، وكأن ما يحدث لا يتعدى كونه عملية ثأر سياسي.
وفي السياق، لا بد من حل كل الميليشيات المسلحة، فليست «داعش» على خطورتها هي الخطر الوحيد على الدولة العراقية، وعلى التحول نحو الدولة المدنية لكل مواطنيها، وإذا كانت بعض الميليشيات المسلحة، تحتمي بالطائفية أولا ثم تتذرع بالوجود العسكري الأميركي وتشير له كاحتلال، فلا بد من خروج آخر جندي أميركي من أرض العراق بأسرع وقت ودون قيد او شرط، ودون انتظار أي ترتيب داخلي.
كل هذا يعتبر جزءا من مظاهر التعقيد في المشهد العراقي، حيث لم يستقر البلد رغم مرور كل السنين، والادعاء بأن نظام صدام حسين كان مصدر الشر الداخلي، ثم الجماعات الإرهابية السنية، دون الإشارة او الاهتمام بما حدث من عمليات ثأر قامت بها جماعات مسلحة شيعية ضد المدنيين، لم يعد كافيا لتضليل الناس، فيما يبدو استهداف رئيس الحكومة بمحاولة الاغتيال، قد وصل بالمشهد الى قمة بالغة، بات معها العراق يقف على مفترق طرق صعب للغاية، حيث إنه لا يمكن أن يكون مع سورية ساحة حرب أو عراك أو تصفية حسابات بين القوى الإقليمية، لأن ذلك يعني أن العراق لم يعد دولة مستقلة او ذات سيادة، حتى بعد أن تغادر القوات الأميركية أراضيه.
ورغم عدم توجيه تهمة محاولة الاغتيال لجهة محددة، إلا أن استخدام المسيرات في المحاولة، يدفع بمؤشر الاتهام الى قوى داخلية تتبع إيران، كذلك الاحتجاج على نتائج الانتخابات يظهر بأن هناك خلافات وعدم تجانس حتى داخل الطائفة الشيعية نفسها، حيث بعد أن ترّفع الصدر عن المشاركة في الحكومات السابقة كلها، ها هي الكتلة الصدرية تتصدر الانتخابات، بما يعني تغيير وجهة الحكم، وهذا ما أثار نخبة الحكم التي ظهرت وتضخمت في مرحلة ما بعد صدام.
وهذا يعني بكل بساطة أن النخبة السياسية التي تسلمت مقاليد الحكم خلال كل تلك الفترة، والتي شهدت على تراجع مكانة العراق ودوره الإقليمي، ليست ديمقراطية، فهي لا تقر بنتيجة الانتخابات رغم إعادة الفرز بالطريقة اليدوية، وهكذا فإن العوامل الداخلية والخارجية تتداخل لتزيد من التعقيد ومن صعوبة الانتقال بالعراق من الدكتاتورية الى الديمقراطية، حيث إن الانتقال الحقيقي لا يكون بالمظاهر الشكلية، بل بجوهر النظام، الذي لا يكتفي بتغيير الوجوه، ولا بإجراء الانتخابات وحسب، بل بترسيخ كل مظاهر الدولة المدنية القائمة على أساس المواطنة، وسيادة القانون.
وحقيقة الأمر، أنه ليس العراق وحسب، بل الكثير من الدول العربية، ما أن تم فتحها من الداخل بشكل قسري، كما أرادت وسعت أميركا عبر سياسة «الفوضى الخلاقة»، حتى عجزت عن الحفاظ على وحدتها الداخلية وحتى عن مقومات الدولة، فضلا عن التقدم نحو الديمقراطية الحقيقية، التي تعيد للمواطن العربي حقوقه السياسية والمدنية الشخصية المصادرة من قبل أنظمة حكم الفرد المستبد، ملكا كان او أميرا او رئيسا.
لذلك نقول باختصار، إنه رغم حاجة الدول العربية للتغيير والتحديث والانتقال من نظام الحكم الديكتاتوري، إلا ان ذلك لا يمكن ان يكون عبر التدخل الخارجي، أيا كان مصدره، بل لا بد للمجتمعات العربية ان تكافح داخليا من أجل إحداث تلك النقلة النوعية في حياتها السياسية، وبما يتوافق ومستوى قبولها وتقبلها لذلك التغيير، الذي لا بد ان يكون تدريجيا، وليس انقلابيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضا وجود فروقات نسبية في استعداد الشعوب العربية للتغيير الديمقراطي، فالاستعداد الشعبي لدى الشعب التونسي مثلا، ليس في مستوى أو درجة الاستعداد الشعبي لدى الشعب السوداني او اليمني مثلا.