لم تتحرر كل الشعوب التي تم احتلالها بفعل المقاومة سواء كانت سلمية أم عسكرية، لكن الشعوب والدول التي تحررت بلا مقاومة لا تشبه حالتنا.
ألمانيا واليابان مثلاً وقعتا تحت الاحتلال الأميركي ولكنهما لم تخوضا عملاً مقاوما للحصول على استقلالهما. دول الخليج العربي أيضا حصلت على استقلالها بلا مقاومة وبعض قادتها ناشدوا بريطانيا البقاء فيها بعد إعلانها الانسحاب الطوعي منها.
لكن لا ألمانيا واليابان ولا دول الخليج العربي تشبه حالتنا الفلسطينية ... ولا أميركا وبريطانيا تشبه إسرائيل.
أميركا لم تحتل ألمانيا واليابان لسرقة أراضيهما وثرواتهما ولكنها كانت النتيجة الطبيعية لهزيمتيهما في الحرب العالمية الثانية، وعندما تشكلت مؤسسات جديدة في كلا البلدين حليفة للولايات المتحدة سارعت الأخيرة بمغادرتهما.
على عكس أميركا، بريطانيا احتلت مناطق الخليج العربي العام 1820 ولم تغادرها إلا العام 1971 بعد أن خسرت نفوذها في اليمن الجنوبي بفعل المقاومة المسلحة وبعد أن أصبحت عاجزة عن الحفاظ على مستعمراتها.
غالبية الدول التي تشبه الحالة الفلسطينية تحررت بفعل المقاومة، لكن هذه المقاومة لم تكن على شكل «هبات» أو «ثورات» متقطعة يلتقط فيها المُحتل أنفاسه، ولكن «ثورات» متواصلة في استنزافها «للعدو» تفضي به في النهاية إلى الإقرار بأن الحفاظ على الاحتلال غير ممكن ويراكم فقط المزيد من الخسائر.
الجملة السحرية هنا هي «الاستنزاف المتواصل» وليس مهما إن كان هذا الاستنزاف عسكريا فقط، ولكن المهم أن يكون استنزافا شاملا، بشريا واقتصاديا ونفسيا. هذا ما جرى عندما تم التحرر من الاستعمار الفرنسي والبريطاني في آسيا وأفريقيا وهو ما جرى مع أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان، وهو ما جرى مع إسرائيل في لبنان.
في الحالة الفلسطينية هنالك «هبات» و»ثورات» وتضحيات عظيمة لكنها مقاومة متقطعة تفصل بينها فترات طويلة من الهدوء تعطي الاحتلال الفرصة لتعويض خسائره وتخفيف الضغط الدولي عليه، وتسمح لشعبه بنسيان المقاومة الفلسطينية أو حتى بوجود شعب تحت الاحتلال.
التاريخ الفلسطيني مليء بهذه الثورات التي عجزت عن الاستمرار باستنزاف الاحتلال لعوامل ذاتية في الأساس وليس بفعل عوامل موضوعية.
هبة البراق العام 1929 لم تستمر لأن القيادة الفلسطينية وقتها تعاملت مع بريطانيا كحكم بينها وبين الوكالة اليهودية التي كانت تمثل اليهود.
ثورة العام 1936 والتي استمرت بشكل متقطع حتى العام 1939 انتهت أيضا لأسباب أهمها قبول القادة الفلسطينيين وقتها بنداء الزعماء العرب لوقف الإضراب في فلسطين، ولافتقارها للقيادة العسكرية والسياسية خصوصا بعد استشهاد القائد العام عبد الرحيم الحاج ووجود القائد عبد القادر الحسيني للعلاج خارج فلسطين.
حركة المقاومة الفلسطينية التي ارتبط اسمها بمنظمة التحرير خاضت المقاومة المسلحة ما بين 1965 والعام 1982، لكنها انحازت للدبلوماسية السياسية بعدها. الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي استنزفت العدو ماديا، استثمرتها القيادة السياسية لتحقيق اتفاق أوسلو بدلا من تركها لتستنزف العدو أكثر وأكثر إلى أن تحقق نتائجها في الحرية والاستقلال.
الانتفاضة الفلسطينية الثانية من نهاية العام 2000 وحتى بداية العام 2004، افتقرت إلى القيادة الفلسطينية الموحدة وإلى الرؤية الاستراتيجية.
أما المقاومة التي تشكلت في غزة فهي بعد تحرير غزة تحولت إلى مقاومة دفاعية في معظمها رغم محاولتها للمبادرة كما شاهدنا العام 2007 عندما تم أسر جندي إسرائيلي وهذا العام عندما بادرت بقصف القدس رداً على محاولات المتطرفين اليهود اقتحام المسجد الأقصى.
ما تبقى من حروب خاضتها المقاومة في غزة كانت بهدف كسر الحصار الذي تضربه حكومة الاحتلال على غزة من خمسة عشر عاما.
نضيف لذلك هو أن المقاومة لم تتمكن من نقل فعلها للضفة الغربية خلال هذه السنوات الطويلة، ولأسباب أيضا ذاتية أهمها الانقسام السياسي وغياب البرنامج الجامع والتنسيق الأمني.
التاريخ الفلسطيني هو تاريخ من التضحيات العظيمة، وفي نفس الوقت هو تاريخ من فقدان القيادة القادرة على التخطيط لاستمرار المقاومة وتصعيدها حتى نهاية الاحتلال.
من السهل الحديث عن الظروف الموضوعية: قدرة جيش الاحتلال الفائقة التي هزمت أكبر دول عربية، العالم العربي المشغول بنفسه أو حتى بتحالف بعض دوله مع إسرائيل، وتأييد الغرب وأميركا لها.
لكن هذا الحديث لا يصمد عند إجراء الدراسات المقارنة: إسرائيل ليست أقوى من أميركا والأخيرة هزمت في العراق وأفغانستان وقبلهما في فيتنام.
إسرائيل نفسها هُزمت في لبنان ورحلت عنه ولا تجرؤ اليوم على التحرش به وهي تلقت نصف هزيمة في غزة لأنها انسحبت بفعل المقاومة منه لكنها أيضا تمكنت من الحفاظ على حصارها له.  
العامل الذاتي مهم وحاسم في مسألة التحرر الوطني. وهو ما تفتقده القضية الفلسطينية منذ بداية الصراع مع هذا الاحتلال وحتى يومنا هذا.