مرت، يوم أمس، الذكرى الثالثة والثلاثين لإعلان الاستقلال الفلسطيني. ويعدّ يوم الاستقلال عيدًا وطنيًا فلسطينيًا، تنظم فيه الاحتفالات، وتغلق المؤسسات العامة والخاصة في أراضي السلطة الفلسطينية، ومع ذلك لم يتجسد الاستقلال حتى الآن، وكأننا استعضنا عنه بالاحتفال به.

منذ إقراره، تعرض إعلان الاستقلال لمعارضة قوية استندت إلى أن تغيير برنامج التحرير والعودة ببرنامج الاستقلال ومبادرة السلام التي تزامنت معه وتضمنت اعترافًا ضمنيًا بإسرائيل ونوعًا من تغليب أشكال النضال السلمية والتفاوضية على الأشكال الكفاحية، ومثّل تراجعًا كبيرًا ونوعًا من التكيّف مع الأوضاع العربية والدولية، وخصوصًا الاعتراف بقرار 242، وأن الاستقلال لم يتحقق، سواء عند الإعلان عنه في العاصمة الجزائرية العام 1988، فهو كان إعلان نوايا ليس أكثر، وتعبيرًا عن إرادة لتحقيقه، وجاء نتيجة للشعور بالثقة بعد الانتفاضة المجيدة، والتوهّم بإمكانية إنجاز الدولة، وأنها صارت على مرمى حجر.

واشتدت المعارضة للإعلان مع مرور السنوات، لأن الاستقلال لم يتحقق، بل على العكس تعمق الاحتلال في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس، وازداد الاستعمار الاستيطاني لدرجة وجود 913 ألف مستعمر مستوطن في الضفة المحتلة، واستمر الاحتلال الذي يأخذ شكل العدوان العسكري والحصار على قطاع غزة، وفرض وتعميق نظام الأبارتهايد في أراضي 48.

وما يزيد الطين بلة أن القيادة الرسمية رغم المصير الذي أوصلتنا إليه لا تجرؤ على المراجعة وطرح البديل أو البدائل الواقعية والممكنة، وتكتفي بالانتظار والتهديدات اللفظية، مع بقاء الوضع البائس على ما هو عليه، فهي تستمر باللهاث وراء إعادة إنتاج أوسلو، وإحياء ما يسمى “عملية السلام”، وهددت واتخذت قرارات أكثر من مرة لم تنفذ بوقف التعامل مع الاتفاقيات الموقعة، وسحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل وتسليم مفاتيح السلطة، وسحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل، واعتماد المقاومة الشعبية أو اتباع خيارات بديلة عن خيار حل الدولتين إذا لم تلتزم إسرائيل به وتنسحب خلال عام من تاريخ خطاب الرئيس الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

السؤال الأول: هل إعلان الاستقلال خطأ من حيث المبدأ، أم صحيح عند تبنيه ولا يزال، والخطأ في السياق الذي وضع فيه والنتائج الذي انتهى إليها، أي هو خطوة صحيحة وضعت في سياق خاطئ وساهمت في نشر الأوهام ووصولنا إلى ما نحن فيه؟

وهذا يقود إلى سؤال آخر: هل برنامج التسوية الذي بدأ يطل برأسه بإقرار ببرنامج السلطة الوطنية على أي جزء يتم تحريره في المجلس الوطني المنعقد العام 1974 هو الخطيئة الأصلية وبداية التدهور، أم أنها خطوة مفهومة بعد هزيمة حزيران 67 وطرح النظام الرسمي العربي شعار “إزالة آثار العدوان” بدلًا من “التحرير والعودة”؟

أنا غير مقتنع أن من أقر برنامج النقاط العشر كان يعرف أو يقدر أن القيادة الفلسطينية ستوقع على اتفاق أوسلو، وأنه حتمًا سيصل، وفي كل الأحوال، إلى ما وصل إليه، لسبب بسيط، وهو أن الفرق شاسع والتناقض كبير جدًا بين النقاط العشر التي أتت مع استمرار تبني الميثاق الوطني وخيار المقاومة، وبين أوسلو الذي شكل ارتدادًا عن كل ما سبقه، بدليل الوصول بعد 14 عاما إلى اعتبار الميثاق “كادوك”، وتعديل معظم مواده بعد عشرة أعوام أخرى بحضور الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، والاعتراف في أوسلو بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام ونبذ المقاومة.

إن تبني النقاط العشر يجب أن يقيم بظروفه والسياق الذي أتى به، فهو أتى بعد أيلول الأسود في العام 1970، واشتداد التنافس بين المنظمة والأردن على تمثيل الفلسطينيين، وبعد حرب تشرين في العام 1973، التي أطلقت قطار التسوية، ورأت المنظمة أنها إذا لم تبدِ مرونةً وتطرح برنامجًا يناسب المرحلة الجديدة، سيتجاوزها قطار التسوية، الذي اعتبرت أنه جارف وسريع، وهذا خطأ كبير وقعت فيه القيادة والمعارضة معًا، أو ما كان يعرف بجبهتي القبول والرفض، وإذا لم تؤهل نفسها للمشاركة فيه فسيتم تجاوزها.

يكمن الخطأ في تصور إمكانية التسوية مع إسرائيل، وقبول الطرف الفلسطيني كلاعب أساسي فيها من دون تغيير جوهري حاسم في ميزان القوى، وهذا قاد إلى سلسلة التنازلات وصولًا إلى أوسلو الكارثة، وكان يمكن طرح برنامج مرحلي قادر على قطع الطريق على مخططات التسوية التصفوية، من دون التخلي عن الميثاق وخيار المقاومة.

ربما لو لم يتم طرح النقاط العشر لما حصلت المنظمة على اعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وهذا أعطاها هامشًا استقلاليًا للحركة بعيدًا عن الوضع الرسمي العربي الذي يشدها إلى الأسفل، ولكنها بالغت في استقلالية القرار الفلسطيني، لدرجة وفرت للحكام العرب والمسلمين والأحرار في العالم كله فرصة للتنصل من مسؤولياتهم إزاء القضية الفلسطينية، لدرجة أخذ يردد الكثير أن “أهل مكة أدرى بشعابها”، و”نقبل بما يقبل به الفلسطينيون”.

ربما لو لم يتم طرح النقاط العشر لما حصل الفلسطينيون على اعتبار الجمعية العامة للأمم المتحدة للصهيونية على أنها شكل من أشكال العنصرية في العام 1975، وتم التراجع عن هذا القرار عشية مؤتمر مدريد، ولما أقرت الجمعية العامة الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، ولما اعترفت بالمنظمة كعضو مراقب، ولما استلمت المنظمة راية حركة التحرر العالمية من الثورة الفيتنامية بعد انتصارها. فشعار تحرير فلسطين صحيح، ولكنه غير مطروح للتنفيذ الفوري، لا في بداية سبعينيات القرن الماضي، ولا الآن بعد مرور عشرات السنين، والفلسطينيون بحاجة الى برامج قادرة على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة.

ربما لو لم يتم طرح البرنامج المرحلي (الذي كان لا بد أن يحصل من دون التراجع عن الهدف النهائي والبرنامج الإستراتيجي) لتم على الأغلب شطب منظمة التحرير ودور الشعب الفلسطيني والعودة إلى عهد الوصاية والاحتواء العربي، ولتم تجاوزها منذ زمن بعيد، وحلّ الأردن والأطراف العربية الأخرى محلها من دون أن تكون قادرة على إزالة آثار العدوان.

ما يعزز هذا الرأي أن الأردن الرسمي وصل إلى قناعة بأنه غير قادر على تحرير الضفة، لدرجة أن الاحتلال رفض الإقدام على فك الاشتباك على الجبهة الأردنية، بعد حرب 1973 ولو على كيلو متر واحد، أسوة بما حدث على الجبهتين المصرية والسورية، ووافق على مضض على أن منظمة التحرير هي الممثل للشعب الفلسطيني في قمة الرباط العام 1974، ثم أصدر قرار فك الارتباط العام 1988 ليخلي مسؤوليته عن الضفة الغربية ما عدا رعاية الأقصى، ويحمل المنظمة كامل المسؤولية، فهو وفق الشرعية الدولية المسؤول عن الضفة التي احتلت، وهي جزء من المملكة الأردنية الهاشمية.

في المقابل، رحبت المنظمة، بسرعة وتعجل، بقرار فك الارتباط، كونه يؤكد وحدانية تمثيلها، ولم تنتبه للمخاطر المترتبة عنه والدروس المستخلصة، وأهمها إذا كانت إسرائيل لم تنسحب “كرمال” الأردن فهي لن تنسحب لصالح منظمة التحرير الفلسطينية النقيض التاريخي لها، لذا كان لا بد من تغيير المنظمة، هذه العملية التي استغرقت ردحًا طويلًا من الزمن، وما كانت لتنجح لولا احتلال العراق للكويت وانهيار التضامن العربي وصولا لطرح مبادرة السلام العربية التي انتهت إلى تتبيع وتطبيع عربي من دون انسحاب، ولولا انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وبدء مرحلة السيطرة الأحادية الأميركية، ولولا الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها القيادات الفلسطينية، وأخطرها توقيع اتفاق اوسلو.

وحتى نفهم ما جرى، كان هناك منافسة بين المنظمة وأطراف عربية عدة على من يمثل الفلسطينيين ومن يحتويهم، وطغيان لرأي عند القيادة الفلسطينية يرى أولوية الاعتراف بالمنظمة على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وهذا قاد إلى الخطيئة الكبرى، وهي الاكتفاء في أوسلو بالاعتراف الإسرائيلي بالمنظمة كممثل للفلسطينيين مقابل اعتراف قيادة المنظمة بدولة إسرائيل، وهذا مثّل تنازلًا تاريخيًا من دون مقابل يذكر.

لقد تصوّر ياسر عرفات أن الاعتراف بالمنظمة سيقود حتمًا إلى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، فهي تناضل من أجل هذه الحقوق، وثبت أن هذا التقدير خاطئ تمامًا، لذلك حذرنا سابقًا من ذلك، ونحذر حاليًا حركة حماس من المبالغة بأهمية الاعتراف بها كلاعب فلسطيني أساسي، أو حتى كممثل للفلسطينيين، من دون الاعتراف بأي حق من الحقوق الفلسطينية.

أوصلنا طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، وخصائصه، وفرديته، ونظام المحاصصة الفصائلي، وابتعاده عن العمل الجماعي، والاحتكام إلى الشعب والمساءلة والمحاسبة والمراجعة والشفافية، ووقوعه في سلسلة من الأخطاء والأوهام والرهانات والتقديرات والتوقعات الخاطئة؛ إلى ما نحن فيه، إذ تحوّل برنامج النقاط العشر إلى برنامج الدولة والاستقلال وتقرير المصير وحق العودة على حساب وبدلًا من برنامج العودة والتحرير، واستبدل الكفاح المسلح كطريق وحيد إلى أشكال عدة للنضال وإلى المفاوضات كطريق وحيد، ثم إلى برنامج إقامة سلطة حكم ذاتي على أمل أن تتحول إلى دولة من خلال المفاوضات والتنازلات وإثبات الجدارة، إلى القبول عمليًا – إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا – ببقاء السلطة، ولو على صورة سلطتين متنازعتين.

إن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، الذي يشمل حقهم في إقامة دولة على أرض وطنهم، حقٌ طبيعيٌ وتاريخيٌ وقانوني، وحقهم في إقامة دولة على أي جزء يتم تحريره وإنجاز الاستقلال الوطني، بما في ذلك على الأرض الفلسطينية المحتلة العام 1967، جزءٌ من هذا الحق، وهو معترف به دوليًا وفي القانون الدولي والشرعية الدولية، إذ أكد قرار التقسيم 181 إقامة دولة عربية على 44% من أرض فلسطين الانتدابية، واعترفت أكثر من 100 بالدولة الفلسطينية بعد إعلان الاستقلال، كما اعترفت 140 دولة بفلسطين كدولة مراقبة في الأمم المتحدة. ولكن الاعتراف الدولي لا ينهي الاحتلال ولا يجسد الدولة إذا لم يستند إلى كفاح متعدد الأشكال قادر على تغيير موازين القوى.

ويستند هذا الحق، كذلك، إلى وجود أغلبية سكانية فلسطينية ساحقة في الضفة والقطاع، حيث يعيش أكثر من خمسة ملايين فلسطيني مقابل أقل من مليون مستعمر مستوطن، ومعظم الفصائل، بما فيها “حماس”، أبدت موافقتها على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، (من دون التنازل عن برنامج التحرير الكامل) وذلك في وثيقة الأسرى، واتفاق القاهرة 2011، وكل الاتفاقات التي وقعت بعده بما فيها وثيقة “حماس” السياسية المقرة في العام 2017، وكذلك أكد إسماعيل هنية، رئيس “حماس”، مؤخرًا، التمسك بها.

كما يدعم هذا الحق جزء من الإسرائيليين، وجزء أكبر من اليهود في العالم، ويمكن أن يساعد على تحقيقه؛ خشية من انفجار القنبلة الديمغرافية التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى ضرب جوهر مشروع الحركة الصهيونية، وهو إقامة دولة يهودية يعيش فيها أغلبية كبيرة من اليهود.

الخلاصة: لم يكن الخطأ إعلان الاستقلال، وإنما في المبالغة فيه، والتعامل كأن الاستقلال قد حدث أو قاب قوسين أو أدنى، ولا كان الخطأ في برنامج النقاط العشر ولا في البرنامج المرحلي، وإنما في عدم فهم طبيعة الحركة الصهيونية، وتوهم أنها ممكن أن تقبل بالتسوية إذا تم التنازل عن معظم فلسطين وعن حق الفلسطينيين في المقاومة وطُبِّعت العلاقات العربية والإسلامية معها، فهذا كله يقفز عن فهم طبيعة المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري وأهدافه وخصائصه، وأنه رافض للتسويات، وعن كونه امتدادًا لمشروع استعماري يهدف إلى إبقاء هيمنة الدول الاستعمارية على المنطقة من خلال إبقائها أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة.

تمثل الخطأ في الاستعداد للمساومة والمقايضة بين وعلى حقنا في الدولة وحق العودة وغيره من الحقوق الفلسطينية، ما جعلنا ننتهي عمليًا – رغم الشعارات النارية والتهديد بالخيارات الأخرى أو بإزالة إسرائيل، وذلك بعد أن حدث الفصل الإسرائيلي لقطاع غزة عن الضفة الذي بدأ قبل أوسلو بسنوات عدة وعبّد الطريق للانقسام الفلسطيني وتعمق بعده – إلى سلطة حكم ذاتي انقسمت إلى سلطتين متنازعتين: تسعى الأولى للحصول على تسهيلات ومشاريع لضمان بقائها مقابل التنسيق والتعاون الأمني، وتسعى الأخرى إلى نفس الشيء من خلال معادلة اقتصاد مقابل تهدئة.

كان ممكنًا، ولا يزال، الجمع بين التمسك بالحقوق الأساسية والهدف النهائي، مع وضع خيارات وبدائل ومراحل وبرامج تناسب الظروف الخاصة بكل تجمع فلسطيني وتصب في مجرى واحد ويحكمها الحقوق التاريخية والأحلام الكبيرة والهدف النهائي.