تعيش الأراضي الفلسطينية المحتلة موجة غلاء مستعرة، حيث شهدت بعض المواد الغذائية نسبة غلاء زادت على 40% من السعر الأصلي، وهو يترافق مع مظاهر أزمة اقتصادية مستفحلة، وأخرى سياسية، قد تؤدي إلى عجز السلطة عن دفع كامل رواتب الموظفين بعد أن تجاوزت الحد الأقصى للاقتراض من البنوك.
ويهدد ارتفاع الأسعار وتفاقم البطالة، خاصة بين الشباب المتعلمين، صحة ذوي الدخل المحدود والفقراء وحياتهم، ويغرق الطبقة الوسطى في أزمات متلاحقة، تؤدي إلى انهيار أجزاء كبيرة منها إلى حافة الفقر.
هناك أسباب عديدة لأزمة الغلاء، بعضها مرتبط ببطش الاحتلال، وبعضها داخلي ناجم عن سوء السياسات والإدارة الاقتصادية، بالإضافة إلى تأثيرات أوضاع السوق العالمي، وخاصة بعد انتشار وباء الكورونا وارتفاع تكاليف النقل والاستيراد وأسعار النفط.
ولعل أول (وأبرز) أسباب المعاناة الاقتصادية التي يعيشها المواطن الفلسطيني ما تفرضه إسرائيل على الأراضي المحتلة من وحدة جمركية، ووحدة في السوق والأسعار. وفيما يصل معدل الدخل القومي للفرد في إسرائيل إلى 44 ألف دولار سنوياً، فإنه لا يتجاوز في الضفة الغربية ألفي دولار سنوياً، وقد لا يتجاوز 800 دولار للفرد سنوياً في قطاع غزة، مع أن المواطن الفلسطيني مجبر على دفع نفس الأسعار التي يدفعها الإسرائيلي، بل إن الأسعار، في أحيانٍ كثيرة تكون أعلى في الأراضي المحتلة، بسبب المنافسة الشرسة لشركات الإحتلال ومؤسساته. وهكذا يدفع المواطن الفلسطيني من عرق جبينه ثمن منظومة الأبرتهايد والتمييز العنصري والاحتلال. هذا بالإضافة للتعسف الإسرائيلي المتمثل في اقتطاع ملايين الدولارات من عوائد الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون من عرق جبينهم، والتي وصلت إلى حوالي ملياري شيكل الى الآن.
لكن هناك سبب آخر في ارتفاع الأسعار الذي يثقل على الإنسان الفلسطيني وهو الفشل المريع للمفاوضين الفلسطينيين المتمثل في قيود اتفاق باريس سيء الصيت. إذ فرضت الاتفاقيات قيوداً رهيبة على الاقتصاد الفلسطيني وحرمته وحدة السوق بين المناطق الفلسطينية، وإمكانية التنقل الحر للبضائع والعمال بين القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. وفرضت في الوقت نفسه، على السلطة الفلسطينية وحدة جمركية وضريبية مع إسرائيل، إحدى نتائجها أن ضريبة القيمة المضافة على البضائع الفلسطينية هي 16%، وهي ضريبة عالية جداً بالنسبة لاقتصاد فقير ومتهالك.
وتفرض ضريبة القيمة المضافة العالية على كل ما يستهلكه الفلسطيني من مأكل وملبس، وهي في الأساس عبء على الفقراء ومحدودي الدخل، فيما يتمتع الأثرياء الفلسطينيون وأصحاب الاحتكارات بتسهيلات وتخفيضات ضريبية واستثمارية.
ويعود تردد الجهات الرسمية الفلسطينية في الاستجابة للمطالب الشعبية بتخفيض ضريبة القيمة المضافة، إلى عدم الاستعداد حتى الآن للصدام مع الاحتلال بخرق اتفاق باريس، والرغبة في جمع أكبر قدر من الضرائب لتمويل السلطة ونفقاتها.
ومن أهم أسباب تفاقم الغلاء والأزمة الاقتصادية، غياب سياسات اقتصادية رشيدة تعالج الأوضاع، في غياب السلطة التشريعية، بعد حل المجلس التشريعي، وإلغاء الانتخابات الفلسطينية، وما يعنيه ذلك من عدم وجود جسم منتخب يحمل هموم الناس، ويمثل مصالحها، ويضع سياسات تعالج الأزمات المتفاقمة. والسلطة التنفيذية وحدها تُقر الميزانية الفلسطينية، ووحدها التي تقرر توزيع بنودها، حيث لم تقر هذه الميزانية من أي مجلس تشريعي منتخب منذ عام 2006.
ومن أهم أسباب غياب آليات التطوير الاقتصادي أن الأجهزة الأمنية تستهلك ما لا يقل عن 30% من ميزانية السلطة الضعيفة أصلاً، في حين تخصص الميزانية للزراعة في بلد زراعي يواجه وحش التوسع الاستيطاني 1.5% فقط. وأدى ذلك إلى الاعتماد المتزايد في الاستهلاك الغذائي على الاستيراد الخارجي، وإلى تدمير منهجي للزراعة المحلية، بما يعنيه ذلك من رضوخ لتقلبات الأسعار العالمية، والإستغلال الذي تمثله أسعار الواردات الإسرائيلية.
ويضاف إلى ذلك، غياب الرقابة الفعلية على الأسعار في الأسواق التي تعاني من جشع بعض التجار، ولكنها تعاني، بشكل أكبر، من الاحتكارات الاقتصادية المحلية، التي تتحكم فعلياً، بأسلوب احتكاري بقطاعات أساسية كالاتصالات، ومصادر الطاقة، والتجارة، ومعظم قطاعات الاستيراد، ووكالات الشركات الأجنبية.
ويؤدي تدخل مكونات سياسية، وأمنية في النشاطات الاقتصادية والإستثمارية، إلى إلحاق أذى فادح بقطاعات اقتصادية عديدة، ونفي إمكانية المنافسة الشريفة في هذه القطاعات. ويجري في هذا الإطار إستغلال النفوذ السياسي لتحقيق أرباح غير مبررة إقتصادياً، على حساب الفئات الشعبية ومحدودة الدخل، التي تدفع في نهاية المطاف، معظم فاتورة الارتفاع الحاد في الأسعار.
ولعل أهم النواقص في هذا المجال غياب سياسات اقتصادية تشجع الاستثمار الإنتاجي وتحفزه، إذ أدت السياسة الحكومية الرسمية، بدعم من البنك الدولي في حينه، إلى تشجيع البنوك على منح القروض الاستهلاكية، وإغراق المجتمع الفلسطيني، الذي يعاني من الإحتلال، في أنماط استهلاكية مفرطة وغير مبررة، وإلى حشر أعداد هائلة من المواطنين في قفص القروض البنكية، وإشغالهم بهموم تسديد القروض، عن المشاركة في الفعلين الاجتماعي والسياسي دفاعاً عن مصالحهم.
لا يمكن صد موجة الغلاء المستعرة والمرشحة للتصاعد أكثر، ولا معالجة الأزمة الإقتصادية، إلا بالتحرر الفوري من اتفاق باريس وقيوده، وتحدي ما ينص عليه، بما في ذلك التخفيض الفوري لضريبة القيمة المضافة، والمباشرة فوراً في إعادة توزيع الموازنة الفلسطينية بتقليل المصروفات على الأجهزة البيروقراطية المتضخمة، وتخصيص موازنات أكثر للقطاعات الحيوية، كالزراعة والتعليم والصحة، والضغط على البنوك لتقديم القروض للمشاريع الإنتاجية.
ويشمل ذلك مواجهة الحكومة الإسرائيلية التي تواصل شهرياً اقتطاع ملايين الدولارات مما يدفعه الفلسطينيون من ضرائب، وسن سياسات تحد من إنتشار الاحتكارات وتحكمها بالقطاعات الإقتصادية، وتدعم المشاريع الانتاجية الكبيرة و الصغيرة خصوصا في مجالات التكنولوجيا، والزراعة، والتعاونيات، والمشاريع النسوية.
غير أن تحقيق تغيير اقتصادي جدي، لن يمكن إلا بمعالجة أهم جذور الأزمة السياسية، وإجراء انتخابات ديمقراطية حرة، لمجلس تشريعي ذي صلاحيات حقيقية في إقرار الميزانية العامة وإعادة توزيعها لمصلحة الفئات الفقيرة والاقتصاد المنتج، وقادر على وضع سياسات تدعم القدرة الفلسطينية على الصمود والبقاء، وتكافح البطالة المستفحلة، وتنقل فلسطين من النمط الاستهلاكي إلى اقتصاد الصمود والتنمية المقاومة.