يمكن قول الكثير عن قرار بريطانيا بتصنيف حركة المقاومة الإسلاميىة (حماس) بأنها حركة إرهابية، سواء لجهة مضمون القرار وتداعياته أو سياقه التاريخي وتوقيته. وفي جميع الأحوال من المهم أن نتحد كفلسطينيين، وأن نتفق على أن القرار مُوَجّه ضد الشعب الفلسطيني بكل فئاته ومكوناته، وهو محاولة رسمية جديدة من دولة ما زالت تتمتع بصفة الدولة العظمى لشيطنة النضال الوطني التحرري وتجريمه، كما أنه يمثل استمرارا وإصرارا على جريمة بريطانيا التاريخية والأخلاقية والسياسية ضد الشعب الفلسطيني، بل ضد السلم والاستقرار العالميَّين، ليس في إصدار وعد بلفور فقط، بل في تسخير كل إمكانيات الدولة العظمى ونفوذها وقوَّتها لتنفيذ الوعد المشؤوم، وتمكين الحركة الصهيوينة من تأسيس دولتها على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه وطموحاته الوطنية.
كل من تابع تفاصيل الحقبة الاستعمارية التي أُسميت انتدابا، ولم تدم لأكثر من ثلاثة عقود، يذهل لحجم وبشاعة الجرائم المروّعة التي ارتكبتها بريطانيا ضد الشعب الفلسطيني وثورته في خدمة المشروع الاستعماري الصهيوني، وشملت تشجيع الهجرة اليهودية وتسهيلها، إعدام المناضلين وهدم البيوت والأحياء السكنية والقرى، واعتقال الآلاف ونفي غيرهم، وفرض الأحكام والقوانين الجائرة التي تستفيد إسرائيل من تطبيقها حتى الآن، وتسليح العصابات الصهيونية، ومنحها عتاد الجيش البريطاني قبل مغادرته. وفي ما يشبه الحنين إلى الحقبة الاستعمارية البائدة التي من أبرز سماتها الشعور بالاستعلاء والتفوق ومحاولة إملاء إرادة المستعمِر على الشعوب المستَعمَرة التي يضنّون عليها بحق تقرير المصير، فقد واصلت بريطانيا، وهي تواصل حتى الآن، سياسة الانحياز الأعمى لدولة الاحتلال عبر مختلف المحطات التاريخية الممتدة منذ ما قبل النكبة وحتى الآن، بدليل التصويت إلى جانب العدوان الإسرائيلي، وضد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره خلال الجلسات التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر.
تجريم النضال الفلسطيني ليس مجرد موقف أخلاقي او قانوني من مسيرة كفاح طويلة معمدة بالتضحيات، ومرصوفة بالآلام والعذابات والصبر، ومعجزات انبثاق الإرادة من تحت الرماد، بل هو موقف من أهداف هذا النضال، أي من حقوق الشعب الفلسطيني الشرعية والثابتة وغير القابلة للانتقاص والتي أكدتها مرارا الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو موقف معادٍ للمبادىء الإنسانية السامية التي دفعت وما زالت تدفع ملايين الفلسطينيين للانخراط في نضالهم، مدفوعين بأنبل القيم الإنسانية في العدالة والحرية والاستقلال والكرامة.
النضال الذي يخوضه شعبنا من دون كلل، استقطب دعم وتأييد مئات الملايين على امتداد العالم بما في ذلك في بريطانيا نفسها التي نعرف أن تيارا وازنا ومُهِمّا في حزب العمال يؤيد حقوقنا ويرفض سياسات دولته الاستعمارية، كما أن ثمة حركات شعبية ومنظمات أهلية وقطاعات واسعة في كل من اسكتلندا وإيرلندا، علاوة على مواقف جمهورية إيرلندا الحرة، ترفض سياسات بريطانيا الاستعمارية، التي ما زالت قيادتها المحافظة محكومة بعقليتها الاستعمارية، مع أن الشمس غابت وأفلت عن مستعمراتها منذ عقود.
قرار بريطانيا يتكامل مع قرار الكونغرس الأميركي القديم الذي نفذته إدارة ترامب، وتلتزم به إدارة بايدن، باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، ومع قرار حكومة الاحتلال بتصنيف منظمات حقوق الإنسان الست كمنظمات إرهابية، ومع موجات النفاق الدولية، حيث تصرف لنا الدول الغربية كلاما ووعودا معسولة، ولكنها عمليا تدعم دولة الاحتلال، وتغُضّ النظر عن جرائمها وانتهاكاتها اليومية، وعن تفلُّتها الدائم من أحكام القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
ولا نعرف ما الذي دهى بريطانيا وحكومتها بعد 34 عاما من تأسيس حركة حماس لاتخاذ هذا القرار العجيب، فالحركة لم تنفذ منذ تأسيسها أي عمل مسلح خارج وطنها فلسطين. وأشكال الكفاح التي تمارسها هي نفسها التي تقوم بها باقي فصائل العمل الوطني، وهي كانت وما تزال وسوف تبقى لفترة طويلة جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني والمجتمعي الفلسطيني يعكس حضوره في الانتخابات العامة وفي جميع جلسات ومداولات الحوار الوطني، ولذلك لا يمكن فهم الموقف البريطاني إلا بوصفه محاولة لابتزاز الشعب الفلسطيني وتهبيط سقوف نضاله، وتبرير العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني، ودعم تهرب إسرائيل الدائم من أي التزامات أو استحقاقات لأية عملية سلام مفترصة.
الموقف الذي عبرت عنه سفارة فلسطين في بريطانيا هو موقف ممتاز ويستحق التثمين، وكذلك الموقف الذي أصدرته وزارة الخارجية. لكن ردّنا على موقف بريطانيا وما شاكله من مواقف عدوانية أخرى، يفترض بنا أن نغادر حالة التظلم والتشكي، إلى ساحة الفعل وإعادة بناء الموقف الوطني الفلسطيني الموحَّد على نحو يُمكّنه من التأثير في المعادلة الإقليمية والدولية، ومدخل ذلك هي الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتطليق الأوهام بشأن إمكانيات استمالة تأييد دول العالم أو إقناعها بحقوقنا من دون ضغط حقيقي على الأرض، وإعادة ترتيب أوضاعنا الداخلية في خدمة مرحلة جديدة ومقاربات جديدة لمواصلة نضالنا ضد نظام التمييز العنصري الذي بات يتشكل على أرضنا بدعم الدول الاستعمارية الكبرى. وإعادة تفعيل أوراق القوة الكامنة والتي جرى إغفال وتهميش كثير منها بما في ذلك سلاح النضال الجماهيري والمقاومة الشعبية والمقاطعة الاقتصادية. والانفتاح الجاد والمتواصل على القوى الحقيقية الداعمة لحقوقنا وخاصة القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية على امتداد العالم، والاتحادات والنقابات والحركات الجماهيرية وخاصة الحركات النسوية والشبابية، وإعادة بناء موقف عربي وإقليمي داعم لنضالنا وحقوقنا الوطنية ورافض للتطبيع والاستسلام.
من المهم جدا في هذا السياق التأكيد على أن شرعية اي فصيل أو إطار سياسي يستمدها من شعبه أولا، وفي حالتنا الفلسطينية فإن افضل رد على القرارات الاستعمارية والعدوانية، هو انضواء حماس في إطار شرعية فلسطينية موحدة تجسدها منظمة التحرير، ولا يعني ذلك بتاتا تخلي الحركة عن أي من قناعاتها السياسية والفكرية، بل، وكما هو حال الجبهات الوطنية المتحدة في كل مكان، تغليب برنامج القواسم المشتركة على أي خلاف فلسطيني داخلي.