قبل الدخول في صلب ‏الموضوع لابد من كلمة تقال ‏حول العلاقة الفلسطينية ‏السوفياتية ثم الروسية فيما ‏بعد… هي العلاقة الأكثر ‏استقرارا من أي علاقة مع ‏أي دولة إقليمية او كونية، ‏أساسها ليس سياسيا فحسب ‏وانما ثقافي واخلاقي ‏وعاطفي.‏
الروس يحبون الشعب ‏الفلسطيني ويعطفون عليه ‏وقيادتهم يقود سياستها ‏ومواقفها مبدأ ثابت لا يتغير ‏هو ان تمكين الشعب ‏الفلسطيني من حقه في تقرير ‏مصيره وإقامة دولته ‏المستقلة، هو عامل أساسي ‏من عوامل الاستقرار في ‏الشرق الأوسط.‏
‏ ورغم التغيرات الجذرية ‏التي حدثت في تلك الدولة ‏العظمى الا ان هذا المبدأ ظل ‏ثابتا لم يتغير ولم يتعدل.‏
اما الرئيس عباس الذي تولى ‏الجهد الأكبر في تنظيم ‏وتفعيل العلاقة مع الدولة ‏العظمى في عهديها، فقد كان ‏ولا يزال من أكثر الزعماء ‏الشرق اوسطيين حظوة عند ‏موسكو، فحين عملت سفيرا ‏لفلسطين هناك ولاحظت ‏التفضيل السوفياتي ثم ‏الروسي للرجل واستقرار ‏العلاقة معه سألت احد ‏أصدقائي المسؤولين عن ‏سبب ذلك، أجاب بلا تردد ‏انه قيادي براغماتي.‏
وفي موسكو يوجد على ‏الدوام فريق كفوء واسع ‏الاطلاع على قضايا الشرق ‏الأوسط ومكانة القضية ‏الفلسطينية فيها، يتقدمهم الان ‏الديبلوماسي اللامع ميخائيل ‏بوغدانوف.‏
وفي كل الأوقات كان ‏السوفيات ثم الروس فيما بعد ‏يقدمون نصائح هامة لمن ‏يلتقونه من الفلسطينيين من ‏مستوى عرفات ثم أبو مازن ‏وحواتمة وحبش وغيرهم، ‏جوهر هذه النصائح الاعتدال ‏ثم الاعتدال ثم الاعتدال، بما ‏في ذلك حضهم على ‏الاعتراف بالقرار 242، ‏الذي كان من المحرمات ‏التقليدية في السياسة ‏الفلسطينية.‏
والان لا يخفى على أي ‏سياسي ان موسكو القديمة لم ‏تعد هي موسكو ذاتها، ونحن ‏في مطلع الربع الثاني من ‏القرن الحادي والعشرين، ‏ولا أخال الرئيس عباس لا ‏يعرف ذلك اكثر من غيره ‏فماذا سيقول في هذه الزيارة.‏
سيبث لاصدقائه الروس مر ‏الشكوى عن سلوك اصدقائهم ‏الاسرائيليين تجاهه وتجاه ‏اعتداله، ولا شك ان لدى ‏الرئيس عباس الكثير الكثير ‏ليشكو منه، وسيتحدث عن ‏مشروعه المفضل وهو عقد ‏مؤتمر دولي للسلام على ‏غرار انابوليس او مدريد ‏الذي نعيش الان ذكراه ‏الثلاثين، وسيتحدث كذلك ‏عن الرباعية الدولية التي ما ‏تزال تحت تأثير المنوم ‏الإسرائيلي الأمريكي الثقيل، ‏وسيتحدث عن خطابه الأخير ‏في الأمم المتحدة الذي امهل ‏فيه إسرائيل سنة لانهاء ‏احتلالها والا فستكون ‏خياراته مفتوحة من اعتماد ‏حل الدولة الواحدة الى العودة ‏الى قرار التقسيم الى اعلان ‏التنصل النهائي من أوسلو ‏وإلغاء الاعتراف المتبادل ‏واشياء كثيرة تنتسب الى هذا ‏الاتجاه.‏
سيظهر المضيفون من ‏بوغدانوف الى لافروف الى ‏بوتين تفهما مهذبا لكل ما ‏يقول ضيفهم، فهم يعرفون ‏كذلك ماذا يفعل الإسرائيليون ‏في السياسة وعلى الأرض ‏ويعرفون أيضا الفرق بين ‏الموقف المبدئي السليم الذي ‏يلتزمه الروس حيال ‏الفلسطينيين والقدرة على ‏تجسيد هذا الموقف او على ‏الأقل اقناع الإسرائيليين ‏بمجرد مناقشته، وبكل اللباقة ‏التي عرفت عن ‏ديبلوماسييهم وقادتهم فلن ‏يعارضوا بصورة مباشرة ‏صريحة ما يذهب اليه ‏الرئيس عباس في خيارات ‏ما بعد السنة، الا انهم ‏سيقترحون عليه أولا ترتيب ‏البيت الداخلي الفلسطيني ‏بتسلسل محدد فتح السلطة ‏المنظمة وحماس، وسيبدون ‏استعدادا للمساعدة في هذا ‏الامر نظرا لحظوتهم لدى ‏جميع اطراف الخلاف ‏الفلسطيني الفلسطيني، ‏وسينصحونه بعدم الذهاب ‏بعيدا ولو في الخطاب او ‏المناورة نحو خيارات ‏مستحيلة كالدولة الواحدة ‏والتقسيم، ما دام العنوان ‏المتداول إقليميا ودوليا وحتى ‏أمريكيا ما يزال حل الدولتين ‏، وسينصحونه كذلك بعدم ‏وضع توقيع الفلسطينيين ‏على شهادة وفاة أوسلو رغم ‏التنكيل الإسرائيلي بها، ليس ‏اقتناعا روسيا بكفاءتها وانما ‏خشية من ان يدخل ‏الفلسطينيون في متاهة ‏غامضة بدائلها غير محسوبة ‏بل وحتى غير معروفة ، ‏ذلك ان اعلان وفاة أوسلو ‏نهائيا له ثمن يدفع وليس ‏مزايا تكتسب.‏
وحين يكون الموقف الروسي ‏هكذا وهو الأكثر اخلاصا ‏لحل الدولتين، فتقديري ان ‏الرئيس الفلسطيني سيضعه ‏في اعتباره وبمكانة أساسية ‏في مجال الخيارات قبل ‏انقضاء سنة الإنذار وبعدها.‏
سيعمل الروس قدر ‏استطاعتهم وهم الموجودون ‏الان على ارض الشرق ‏الأوسط الملتهب، وعلى ‏تماسٍ مع اهم جغرافيات ‏الصراع مع إسرائيل، ‏سيعملون من اجل إعادة ‏القضية الفلسطينية الى ‏أولويات الاهتمام، والباقي ‏مرتبط بالتطورات وما تنتج ‏أخيرا من خلاصات.‏