أشعلت جريمة قتل الطالب مهران خليلية خارج حرم الجامعة العربية الأميركية في جنين على خلفية شجار بين طلاب، وما تبعها من مواجهات بين أهالي جبع وأفراد الأجهزة الأمنية الأضواء الحمر، خصوصًا أنها ترافقت مع إغلاق جامعة بيرزيت جراء خلافات بين الحركة الطلابية نتيجة تدخل الطلبة من المنضمين والمحسوبين على الأجهزة الأمنية في الجامعة واعتدائهم على ممثل إحدى الكتل الطلابية، وكذلك ما حدث من امتداد لشجار عائلي في مدينة الخليل إلى حرم جامعة الخليل، وتعليق الدوام في جامعتي الخليل والبوليتكنك، فضلًا عما سبق هذا الشجار من اعتداءات على محلات وسيارات وممتلكات خاصة وعامة في خليل الرحمن التي تتعرض، وخصوصًا الحرم الإبراهيمي، إلى أخطر اعتداءات من الاحتلال في هذه الأيام، بينما تنهشها الصراعات الداخلية وأخذ القانون باليد على خلفية الثأر لمقتل شخص ضمن مسلسل الثأر بين عائلتين من دون أن تملك السلطة الإرادة الكافية أو القدرة، وربما الرغبة، على السيطرة.
كل هذا يحدث مثله في مختلف البلدان التي تشبه الوضع عندنا في فلسطين، ولكن الفرق أن فلسطين محتلة وما يجري يمكن أن يكون مجرد مقدمات لما هو أخطر، والمشروع الصهيوني الاستعماري لم يغلق، بل لا يزال مفتوحًا، ويسعى لاستكمال تحقيق أهدافه التي تصطدم ببقاء نصف الشعب الفلسطيني صامدًا على أرض وطنه وبقاء القضية الفلسطينية حية رغم كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني من أهوال وحروب ومجازر ومؤامرات، وما يميز ما يجري عندنا من عنف داخلي يهدد السلم المجتمعي أنه يتصاعد بما ينذر بالانهيار إذا لم تعالج أسبابه في ظل مأزق عام ناجم عن حصيلة تراكم أزمات عدة لم تجد حلًا، وتحولت إلى مأزق كبير.
وتتمثل هذه الأزمات في فقدان المشروع الوطني الموحد، والهدف العام الذي يوحد الجميع، أو الغالبية الكبرى من الناس والقوى، فهدف التحرير الكامل بعيد عن التحقيق، وهدف تجسيد الدولة على حدود 67 لم يعد قائمًا، على الأقل على المدى المنظور، جراء عدم إقدام القيادة المتنفذة على تغيير المسار رغم وصول المسار المعتمد إلى طريق مسدود، وتجاوز إسرائيل منذ سنوات عديدة للالتزامات الإسرائيلية في اتفاق أوسلو من دون إلغائه رسميًا، حتى تبقى القيادة الرسمية الفلسطينية ملتزمة بالالتزامات الفلسطينية، وهذا أدى إلى موت ما يسمى “عملية السلام”، وسقوط ما يسمى حل الدولتين، وفقدان الثقة والأمل بالمستقبل، ما جعل الحلول الفردية تحل محل الحل الوطني الجامع، وتفاقم الأمر في ظل التغييرات القيمية والاجتماعية والاقتصادية، وتقوية أنماط العمل والعادات الاستهلاكية والنزعات والهيئات المحلية والجهوية والعائلية والعشائرية على حساب المؤسسات والقيم الوطنية والدينية.
لقد ساعد الوضع القائم على نشوء أفراد وشرائح وجماعات اغتنت وازدادت نفوذًا وسلطة من اعتماد الاقتصاد النيو ليبرالي الوحشي، الذي يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا، وغياب العدالة، وازدادت قوة من المزايا التي تقدم لها من الاحتلال والمكاسب التي حصلت عليها من الانقسام، وما أدى إليه من ضرب النظام القضائي وسيادة القانون وانتشار الفساد والعنف والتمييز الداخلي بشكل عام، وضد المرأة والأطفال بشكل خاص.
ونحيل غير المصدق إلى تفاقم ظاهرة العنف الداخلي بين أوساط شعبنا في أراضي 48، التي يد إسرائيل (من دون القفز عن الأسباب الفلسطينية) واضحة فيها وضوح الشمس، وإلا كيف نفسر أن مئات الآلاف من قطع السلاح غير المرخص منتشرة في أوساط شعبنا مع انتشار الجريمة المنظمة، وبينما يتم القبض على جميع المشاركين بعمليات مقاومة ضد الاحتلال؟
وفي الوقت الذي يتم فيه القبض على غالبية المجرمين في أوساط اليهود داخل إسرائيل، لا يغلق سوى 30% من ملفات الجرائم بين صفوف شعبنا في الداخل، حيث وصلت نسبة الجريمة هناك إلى 75 شخص لكل مليون، بينما وصلت في الأراضي المحتلة العام 67 إلى 14 لكل مليون.
وما زاد الطين بلة أن ما يحدث ترافق مع وقوع الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي واستمراره، وفشل المحاولات والمبادرات التي هدفت إلى إنهائه، لدرجة أن ملف إنهاء الانقسام بات طي النسيان، فلا أحد بات يتحدث فيه أو يحاول بصورة جادة استئناف الجهود الرامية إلى توحيد القوى والطاقات في مواجهة الاحتلال المتعنت والمتطرف، الذي يسعى بنجاح لافت لتطبيق صفقة عصر بصيغة جديدة.
ولتفسير تدهور الموقف في الأشهر الماضية، لا بد من رؤية التأثير الكبير لإلغاء الانتخابات من دون تحديد موعد جديد، ومعنى ذلك بأن الأمل بإصلاح السلطة وإقامة حكم رشيد قد تبخر مثله مثل الآمال بإنهاء الانقسام وإحياء المشروع الوطني وإقامة جبهة موحدة للمقاومة الشعبية.
كل ما سبق على أهميته لا يكفي لتفسير ما يحدث من مقدمات حدوث انهيار أمني ومجتمعي وسياسي مرشح للتفاقم، إذ لا بد من تبيان أن الوضع الفلسطيني يعاني من غياب كبير للمؤسسات على اختلافها، فالحكومة لا تحكم، وغير مساءلة ولا تتمتع بالشفافية، والمنظمة أصلًا مجمدة منذ زمن بعيد، وإطار القيادة الفلسطينية بمعناها العام الذي يشمل مختلف القوى، أو بمعناها الخاص الذي يشمل القوى المنضوية في المنظمة غائب، وإذا حضر بشكل انفرادي فهو سيعمق المأزق ولا يحله كونه يمثل فريقًا واحدًا، لأن المأزق شامل وعميق وأكبر من أن يجد حلًا من فريق واحد، وبحاجة إلى تغيير جوهري أكبر من مجرد إصلاح.
وحتى تكتمل الصورة لا بد من ملاحظة أن القرار الفلسطيني لا يتخذ بشكل مؤسسي، ولا حتى يتم التشاور حوله في هيئة تشاورية مستقرة (في مطبخ) كما كان يحدث سابقًا، وإنما من شخص واحد جمع كل السلطات بين يديه، ويعاونه بعض المساعدين الذين باتوا يتحكمون بكل شيء.
وهنا يجدر التوضيح بأن حركة فتح لا تحكم، ولو فعلت سيكون حكمها أرحم، لأنها تعبر عن قطاع كبير، رغم أن الحكم يتم باسمها ويستند إلى الشرعية التي تمتلكها، فهي تتحمل وزر ما لا تقرر فيه.
وأخيرًا، السلطة ومراكز القوة منشغلة في توفير مقومات بقائها وزيادة أرباحها ونفوذها أكثر من أي شيء آخر، وما يقتضيه ذلك من تركيز الجهود لإرضاء الاحتلال الضامن الأقوى لبقائها، من خلال العمل على منع المقاومة وتصفية بنيتها التحتية التزامًا بالتعاون والتنسيق الأمني، والاستعداد والتنافس، وحتى الصراع، على الخلافة في ظل عدم وجود آلية قانونية، ولا آلية متفق عليها في ظل غياب المجلس التشريعي والمؤسسات الأخرى في السلطة والمنظمة.
كل ما سبق يؤدي إلى وضع غير طبيعي ولا صحي، وتنافس غير شريف، وتغليب المصلحة الفردية على العامة، ويأخذ شكل تجميع القوى والولاءات على حساب المصلحة الوطنية، ويغذي ظاهرة انتشار وتكاثر مجموعات من المسلحين غير معروف عددهم بالضبط، ولكنهم يزدادون عددًا وعدة، وهذا كله يحدث فراغًا وطنيًا وشرعيًا، والطبيعة كما يقال تكره الفراغ حيث يتم ملؤه من مجموعات وأطراف محلية وخارجية لا تريد لفلسطين الخير.
استنادًا إلى ما سبق، قلت وأكرر بأن المخرج عام ووطني، ويقوم في أساسه على إحياء المشروع الوطني والمؤسسات الوطنية، وخصوصًا مؤسسات منظمة التحرير، ولا يمكن أن يكون المدخل تشكيل حكومة، أو قيادة انتقالية، أو إجراء الانتخابات من دون توفير مستلزمات إجرائها بحرية ونزاهة واحترام نتائجها، وإنما حوار وطني شامل تمثيلي قدر الإمكان، يضع على جدول أعماله التوصل إلى رزمة شاملة تطبق بالتوازي والتزامن، تبدأ بالاتفاق على البرنامج الوطني وأسس الشراكة والقواعد التي تحكم السلطة والمنظمة في مرحلة التحرر الوطني.
ولن يأتي المخرج الوطني إلا كما جاء في التاريخ الفلسطيني كله من خلال تفجر ثورة أو انتفاضة، ستأتي عاجلًا أم آجلًا، لأن الاحتلال لا يبحث عن تسوية ولا عن شريك فلسطيني، وإنما عن عملاء، ويعمل على تصفية القضية. هذه الثورة أو الانتفاضة القادمة متوقع أن تصب في المجرى الطبيعي، مجرى مقاومة الاحتلال والتصدي للتحديات التي تتهدد القضية والأرض والشعب، ففي هذا السياق فقط يتوحد الشعب وقواه الحية ويحدث التغيير المطلوب والقادر على استنفار الطاقات والإبداعات للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.