استهل إلياس خوري مداخلته، في مؤتمر مؤسسة الدراسات الفلسطينية حول «الثقافة الفلسطينية اليوم، تعبيرات وتحديات وآفاق»، بتحديد دور الثقافة والمثقف، فالثقافة تستطيع أن تحمل المجتمع وتحميه من السقوط، والمثقف هو من يحرس الكلمات ويدافع عن المعاني ويكافح الظلام. وميز بين مثقف البترو دولار والمثقف المنحني والخائف، وجلهم ساهم في صناعة ثقافة الحضيض التي جسدت اختلاط الأصوليات والاستبداد وعلاقات التبعية معا، ميز خوري بين مثقف البترو دولار، والمثقف الحر العضوي النقدي والمستقل الذي يضطلع بدور سياسي واجتماعي وينتج ثقافة تحرر مستقلة. وحذر من مغبة انعزال المثقف النقدي داخل بيئة أكاديمية بعيدا عن قضايا شعبه، ورأى أنه يستطيع الحضور والتدخل عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح مستويات مختلفة من التأثير في الحراكات الاجتماعية.
ماهر الشريف توقف في مداخلة بعنوان "منظور التحرر في الثقافة الفلسطينية"، عند العلاقة بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي. ونقد الاتجاهات التي وضعت القضايا الاجتماعية جانبا وشككت في جدوى الاهتمام بالديمقراطية وقضايا المرأة، مستندا لموقف فرانز فانون والحداثيين الذين اعتبروا التحرر الاجتماعي شرطا أساسيا للتحرر الوطني. واستعرض الشريف المقاربات النقدية العربية التي رأت أن تأخر المجتمع يشكل شرطا مواتيا للغزو الاستعماري، وان التحدي الذي يواجه المجتمعات العربية وهي تقاوم المستعمرين هو التحديث والتطور. ذلك أن قتال المستعمر من المفترض أن يترافق مع تطوير وتطور المجتمع في مجال البنية التحتية المادية والمؤسسات الاجتماعية والممارسة السياسية. وهذا يعني الانتقال من مجتمع أبوي تقليدي وعلاقات ما قبل الحداثة (الأبوية والولاء والعشائرية والرعية وقمع النساء والتعصب)، إلى المواطنة والمعرفة الحديثة والعلمانية وضمان الحريات العامة والفردية. وتوقف الشريف عند دور المثقف في إنتاج خطاب تفكيكي نقدي يمد الحركات الاجتماعية بالمعرفة ويسائل السلطة، من وجهة نظر هشام شرابي.
في هذا الصدد، اعتبر حيدر عيد، أن الحصار الفكري هو أخطر أنواع الحصار، وأن استعمار العقل هو أخطر أشكال الاستعمار، وأن تحرير العقل هو المقدمة الأولى لتحرر الإنسان.   
رائف زريق عزز الدور النقدي للمثقف الذي يعادل استجواب أي سلطة تسعى للهيمنة والدفاع عن التعدد والانفتاح على الحضارات والهويات. ورأى أن الفعل الفكري يجب أن يصب في الفعل السياسي الذي من المفترض أن يحافظ بدوره على بعد ثقافي أخلاقي يحميه من العطب. وحذر زريق من وقوع المثقف في خطر التبرير الذي يعادل الخضوع للسلطة السياسية، ورأى ان وظيفته هو حراسة الحلم وتوضيح الكيفية التي تتحقق فيها الأفكار. وأنهى حديثه بكلام للفيلسوف لودفيج فيورباخ عندما قال، إن "هيجل بدأ بتبني فكرة مطلقة دون واقع، وانتهى بواقع دون فكرة".
كما نرى، يحدد المثقفون دورهم ودور الثقافة وينتقدون الانحراف والسلب والقصور الثقافي في الوقت الذي يكتشفون فيه عناصر القوة ويستشرفون المستقبل، أيضا، يحدد المثقفون علاقتهم بالسياسيين وبالترابط بين الدورين، كما يحددون علاقتهم بقوى التغيير وينتقدون كل خلل وتجاوز. لذلك نجد المثقف النقدي يتابع السياسة في كل تفاصيلها ويمارس الرقابة والاحتجاج والنقض ويرفض الاستبداد السياسي والتبعية للخارج. مقابل ذلك، يحجم السياسيون عن تعريف العلاقة مع المثقفين ولا يمارسون النقد المباشر، فقط هناك محاولات دائمة لاستخدام الثقافة واستئناس المثقفين وتوظيفهم لمصلحة السلطة السياسية. ولا يتابع السياسيون الثقافة ومنتجاتها المتنوعة وحواراتها وأفكارها. في ظل هذه المعادلة يحضر المثقف ويغيب السياسي، وهذا ينسجم تاريخيا مع دور المثقفين في إنتاج الفكر والأدب والفنون والعلوم والفلسفة ومنظومة القيم، ومع حاجة السياسي للمثقف كدور ورافعة. فقد ارتبط الصعود السياسي الفلسطيني عند نقطة الالتقاء بالمثقف ومنتجاته المتعددة ونقده وتدخلاته ومبادراته، وارتبط الهبوط السياسي بالافتراق عن المثقف أو بالسيطرة عليه واستئناسه.
الافتراق بين المثقف والسياسي يشكل خللا كبيرا، لا يخدم عملية التحرر الوطني والاجتماعي. المثقف هو المرشح لردم الهوة، من خلال فرض استجابة السياسي. ففي الوقت الذي عرّفت فيه الثقافة منظومة القيم بالحريات والحق في التعبير والنقد والاختلاف، وحقوق الإنسان وحقوق النساء والأطفال والمواطنة والديمقراطية والتعدد الثقافي والعلمانية والانفتاح على الحضارات والثقافات الإنسانية والحق في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي إلى غير ذلك، إزاء ذلك لم يواكب السياسيون هذه المنظومة باعتمادها ومأسستها وترجمتها. المأسسة تعني دعمها بمنظومة قوانين وحماية القوانين في التطبيق. لم يحدث هذا وبقيت المؤسسة السياسية منفصلة عن منظومة القيم إلا بالشكل، وباعتماد الاتفاقات والمعاهدات والقوانين الدولية بالأقوال ومناهضتها بالأفعال. غير أن منظومة القيم كمنتج ثقافي لا تزال غير مكتملة ومنفصلة عن أكثرية المجتمع التي تنتمي إلى منظومة محافظة مدعومة من الإسلام السياسي، الطرف الأقوى سياسيا والمرشح للسيطرة السياسية. ولا يمكن لها أن تكتمل وتحظى بالدعم السياسي إلا من خلال عقد وطني اجتماعي جديد يجسد مصالح الشعب بكل مكوناته المحلية والإقليمية.
لقد وسعت الثقافة من ساحاتها ومجالاتها في العقدين السابقين، توسعت في مجال السينما والمسرح والعمارة والفنون البصرية والفلكلور والموسيقى والرقص وغناء الراب وغير ذلك. وكانت قبل ذلك محصورة بالشعر والأدب والفن التشكيلي. الدخول إلى مجالات عديدة ساهم في تطور تأثيرها المجتمعي وفي ترابط ووحدة المكونات الفلسطينية التي يعزلها المستعمرون عن بعضها البعض، وفي بناء جسور التشارك الثقافي مع العالم العربي والعالم. وكما تعرض الفكر السياسي والاجتماعي للنقد والتصويب، فإن حقول الثقافة الأخرى يعوزها النقد والتقييم الموضوعي، وتحديدا لجهة عزل التضامن الوطني والسياسي عن تقييم المستوى المهني، ولجهة التحرر من أجندات وأولويات الداعمين.
لقد أفلتت الثقافة من السيطرة السياسية، ولم يكن ذلك بفعل تطور طبيعي، وإنما بفعل ضعف المركز السياسي وعدم قدرته على السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني الثقافية، اصبح إلى جانب المركز السياسي الذي كان منفردا في سيطرته، مراكز ثقافية في مناطق 48 وفي الضفة والقطاع والقدس والخارج، مراكز لها استقلاليتها النسبية. لكن التعدد المشروع في مجالات مختلفة، لا يتفق مع ضرورة وجود المتحف الوطني والمكتبة الوطنية والصندوق الوطني وفرقة الفنون الوطنية. في غياب بناء هذه المراكز لأسباب ذاتية – كتوفر الإمكانيات المادية، وضعف المركز السياسي وانفصاله عن الثقافة – وبسبب السياسة الاستعمارية الإسرائيلية، خرجت إلى العلن مبادرات لإنشاء متحف، وتأسيس مراكز ثقافية كبيرة.