أعلنت إسرائيل قبل أيام عن انتهائها من إقامة ما سمته "الجدار العائق الذكي"، وذلك بطول نحو 65 كيلومتراً، على طول الحدود الشرقية والشمالية التي تفصلها عن قطاع غزة، بما يذكر بما كانت قد أقامته قبل نحو عقدين من السنين، من جدار للفصل العنصري بينها وبين الضفة الغربية.
الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، قال إن بناء الجدار جاء بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من العمل، وإنه يتضمن جداراً تحت الأرض مزوداً بأجهزة تكنولوجية للكشف عن الأنفاق، وسياجاً علوياً، إضافة لحاجز بحري ونظام كشف وغرف تعتبر مراصد لإطلاق النار، ما يعني أن الجدار لم يتم بناؤه بهدف الفصل بين قطاع غزة وإسرائيل، هذا مع العلم، أنه ليس هنالك من اتصال بين الجانبين، إلا بحدود مرور محدود للوفود وبعض المسافرين بين غزة والضفة، كذلك مرور البضائع التي يحتاجها المواطنون الفلسطينيون، أي أن إسرائيل تعزل قطاع غزة ليس عنها فقط، ولكن عن العالم الخارجي بأسره.
الناطق العسكري نفسه أشار إلى أن مشروع بناء الجدار كان واحداً من أكثر المشاريع التي أقامتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعقيداً، وأن كلفته الإجمالية بلغت ثلاثة مليارات ونصف المليار من الشواكل الإسرائيلية، أي أكثر من مليار دولار أميركي، أما وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، فكان أكثر دهاء من الناطق باسم جيشه، حين قال إن بناء الجدار إنما يفصل بين حماس وسكان الجنوب، ويقصد بالطبع سكان ما يسمى الغلاف الاستيطاني الإسرائيلي القريب من الحدود مع قطاع غزة.
بعيداً عن الصراعات السياسية الإسرائيلية الداخلية، والتي تجري حول العديد من الملفات الخارجية بالنسبة لإسرائيل، ومنها بالطبع ملف العلاقة مع حماس خصوصاً ومع قطاع غزة عموماً، فإن بناء هذا الجدار إضافة إلى تكلفته التي تهم وزارة الجيش، يعني أن الجيش يسعى إلى إغلاق الباب أمام الانتقادات المتلاحقة التي يوجهها له السياسيون، قبل وخلال وبعد كل مواجهة عسكرية مع قطاع غزة، بصرف النظر عن نتائجها العسكرية وحتى السياسية.
هذا من ناحية العسكر، أما من ناحية السياسيين، الذين ما زالوا يواصلون "التفاوض" مع حماس وإن كان بشكل غير مباشر، حول التهدئة وتبادل الأسرى، بشكل ماراثوني، فهم يتقصدون عمداً أن لا تصل إلى نتائج فورية أو سريعة، فإن بناء الجدار، يحقق إنجازاً لهم في لعبة التفاوض، بل ويعتبر محاولة لعزل غزة نهائياً عن الضفة الغربية، خاصة من ناحية التفاعل أو مشاركة القطاع، ضد التصعيد الإسرائيلي بالهجوم على القدس والضفة، ومحاولته جعل الحقائق على الأرض غير قابلة للعودة إلى الوراء، أي إلى الانسحاب لحدود الرابع من حزيران من العام 1967.
وذلك كما حدث في رمضان من العام الماضي، أو في أيار حين انطلقت صواريخ غزة، ومن ثم نشبت آخر مواجهة عسكرية بين الجانبين على خلفية مساندة غزة عسكريا للشعب الفلسطيني في القدس والضفة، وهو يواجه الجبروت الاحتلالي الإسرائيلي.
المشكلة تكمن في أن إسرائيل ما زالت تعتقد بأن الحصون والدروع، وكذلك القوة العسكرية، أو حتى التفوق العسكري، هي ما تحقق لها الأمن والسلام، وما زالت ترفض أن تقر، أو حتى أن تفكر للحظة، بأن احتلالها للأرض الفلسطينية، هو سبب التوتر والمواجهة، بينها وبين جارها الفلسطيني، وأن احتلالها وقمعها للأرض والشعب الفلسطينيين، هما السبب في مقاومة الشعب الفلسطيني، وبالتالي السبب في حاجتها للتحصن والانغلاق والتمترس وراء الحديد والنار.
وإسرائيل لم تتقدم - وذلك بمناسبة اندلاع أعظم مقاومة شعبية أطلقها الشعب الفلسطيني، قبل 34 سنة مضت - لأكثر من منتصف الطريق، فهي على وقع تلك الانتفاضة تقدمت نحو المفاوض الفلسطيني، ووقعت إعلان المبادئ، ونفذت جزءا منه وهو الخاص بالحل المؤقت، أي إقامة السلطة الفلسطينية، كسلطة حكم ذاتي، وقطعت الطريق على الوصول إلى نهاية الحل، وهو الحل النهائي، المتمثل بانسحابها عن أرض دولة فلسطين، لإقامة تلك الدولة إلى جوارها، وهي فعلت الشيء نفسه، أي وقفت عند منتصف طريق الانسحاب من قطاع غزة، بخطوتها الأحادية التي أقدمت عليها العام 2005.
وهي منذ ذلك العام، أخرجت قواتها العسكرية ومستوطنيها من داخل القطاع، لكنها حاصرته، وظلت تتحكم في حدوده الشرقية والشمالية والغربية، فيما كانت حدوده الجنوبية شأنا فلسطينياً/مصرياً بحكم الواقع الجغرافي.
ولو كانت إسرائيل تسعى للانفصال حقاً، عن قطاع غزة، لتركته وشأنه، ولرفعت يدها عن التحكم بأجوائه وبحره، هذا مع الإقرار بأنه يمكنها، بل ربما كان من حقها، أن تغلق حدودها الشرقية والشمالية في وجهه، بل أن تمتنع حتى عن تزويده بالبضائع، حيث إنها بهذا تهدف أصلا للإبقاء على تحكمها به حتى من زاوية ماذا يأكل، وماذا ومن يدخل للقطاع ومن يخرج منه، لكن بالقطع ليس من حقها أن تبقى تتحكم في سماء غزة ومجالها الجوي ولا في بحرها وحدودها البحرية، وبالطبع ليس لها الحق في الاستمرار بالسطو على مياهه وثرواته الجوفية ولا التحكم في ثروته البحرية ومنها الغاز قبالة ساحله الغربي.
إن إسرائيل التي ما زالت مسكونة بعقدة الغيتو والعزلة والظن السيئ بالآخرين، لن تقوى بهذا الشكل على تحقيق أمنها الحقيقي، لأن مدخله الوحيد هو حسن الجوار، ولن تنفعها محاولات القفز على الحقيقة، بتجاوز الجار وتجاهله بالذهاب إلى الآخرين مباشرة عبر اتفاقيات التطبيع، التي بدورها تعتبر وهمية، لأن الحكام فقط هم من ينخرطون فيها، في حين أن الشعوب ترفضها وتتجاهلها، وحتى لو أن إسرائيل خرجت من عزلتها مع الاحتفاظ باحتلالها، أي لم تعد أسيرة الغيتو الذي تصنعه بيدها، فإن "الجدران الأمنية" التي تشبه جدار برلين، تعني أنها معازل وأنها سجون جماعية، وهي أقرب للمعازل العنصرية التي أقامها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ومختصر القول هو أن أمام إسرائيل أحد خيارين لا ثالث لهما، هو إما أن تنسحب من الأرض الفلسطينية المحتلة وأن تترك الفلسطينيين يعيشون حياتهم وفق إرادتهم، أو أن تختار أن تكون دولة الفصل العنصري، الصريحة والواضحة.