صدر مؤخراً عن دارة الاستقلال للثقافة والنشر- جامعة الاستقلال برام الله - فلسطين ، كتاب للاعلامي نبهان خريشه بعنوان ( سيرة القيد والقلم ) سجل فيه الكاتب مذكراته عن تلك الحقبة التي عانى فيها كأسير في سجون الاحتلال الصهيوني , وبدأ رحلة الذاكره بوصف عابر لطفولته في قريته (ذنابة) والتى اصبحت ضاحية من ضواحي مدينة طولكرم . وبأسلوب فذ وأخاذ سرد لنا الكاتب تجربته وتجربة رفاقه من الاسرى والمعاناة اليومية التى عاشها في زنازين الاحتلال واصفاً كل حركة وسكنة من هذه المعاناة وكأننا حين نقرأ تتراءى لنا صورة واقعية، وكأننا نشاهد ما يجري امام تلفاز يعرض تفاصيل الالم والجرح والمعاناة والاصرار على الصمود والبقاء وقوة الايمان بالقضية التي ناضل ويناضل من أجلها كل اسير فقد حريته من أجل أن يتحرر وطنه من نير الاستعمار الصهيوني .
لم يترك الكاتب شاردة أو واردة الا وذكرها في مشوار اسره ، ولم يترك معتقلاً وسجناً على مدى الارض الفلسطينية التاريخية الا طاف بنا ، حتى تخيلنا أننا نقف في ذلك الموقف الذي وقفه وفي ذلك الوجع الذي عايشه، وكأنما يقدم لنا وثيقة كاملة متكاملة عن ما يقترفه الاحتلال بحق الوطن الفلسطيني وبحق ابنائه وبحق كل ما على الارض من بشر وحجر وشجر عانى من ظلم الاحتلال وتغطرسه .
معرفتي بنبهان تعود الى زمن ولادته، فهو اضافة الى كونه ابن قريتي فهو قريبي من جهة الام ، وان كانت قد فرقتنا المسافات حيث رحلت صغيراً مع اهلي الى مدينة الزرقاء بالاردن ، الا أن اخباره لم تنقطع عني، وخاصة ما جرى مع هذا الطفل من حوادث في صغره، سواء ما أصابه من طلقة دمدم في عينه أو ما كان عليه من شقاوة وحركة دؤوبه جعلته الانشط والاكثر حيوية بين أقرانه .
وشاءت لنا الايام أن نلتقي في الجامعة الاردنية، وكنت طالباً في السنة النهائية وكان مستجداً كطالب في كلية الاداب، وكانت أياما طويلة قضيناها معاً ، وتصادف في تلك الفترة ايضاً قدوم ابن خال والدتي، النائب الفلسطيني لاحقاً ( حسن خريشه ) الذي لم يستمر معنا طويلاً وسافر الى الباكستان لدراسة الطب .
كتب نبهان في فصل العبور الثالث الى سوريا:
( ابـن قريتـي وقريبـي مـن جهـة الأم »عـودة« كان علـى وشـك التخـرج، فيمـا كنـت أنـا قــد التحقــت بالجامعــه اآلاردنيــة حديثــا لدراســة االادب الانجليــزي بعــد حصولــي علــى بعثة دراسية حكومية لحصولي على المرتبة التاسعة من العشرة الاوائل في الضفتين، الغربيــة والشــرقية، فــي الثانويــة العامــة (التوجيهــي)، وعلــى الرغــم مــن علا قــة القرابــة بينـي وبيـن "عـودة" الا اننـا لـم نعـش سـويا فـي البلـد لأن عائلتـه هاجـرت الـى الاردن قبل حرب الـ 67 بسنوات .
كنـت انظـر الـى "عـودة" بتقديـر، وازداد هـذا التقديـر عندمـا فتـح لـي بابـا لإللتحـاق بالثـورة .. وخـلال اشـهر معـدودة نجحـت فـي نسـج علاقـات مـع ناشـطين مـن احـزاب مختلفـة فـي الجامعـة وخارجهـا، دون البـوح او حتـى التلميـح بسـر انتمائـي لحركـة (فتح).
وما لم يذكره نبهان في التفاصيل، ان كل الفصائل والاحزاب كانت تدعوه الى اجتماعاتها املاً بضمه اليها، مما سهل عليه مهمة اطلاعنا على كل مايدور في اجتماعاتهم ، الى أن كشف امره من قبل زميلنا في الدراسة ( سمير عبد الله ) الذي تولى منصب وزير الاقتصاد الفلسطيني لاحقا، وكا ن ينتمى الى حزب ما ، حيث جاءني معاتباً على هذه الخديعة التى لم يكن يتوقعها .
كانت الفترة التى عشناها معاَ حافلة بالاحداث والذكريات التى كنت قد سجلت بعضها في مذكراتي تحت عنوان ( الذكرى والذاكره ) .
وكتبت (لم تمض اشهر قليلة على السماح لي بالسفرللعمل بالخارج بعد طول معاناة وانتظار. جاءني نبأ اعتقال ( نبهان ) من قبل سلطات الاحتلال , وما كان يحيرني فعلاً انه أعتقل، مما جعلني اشك أن هناك أمراً دبر بليل لهذا الشاب .
وفي جلسة وبعد مايقارب الخمسين عاماً على هذه الحادثة، التقيت ( نبهان) في رام الله، وبدأنا نستذكر الماضي بكل ابعاده .
اما كيف ولماذا كنت أشك بأن امراً دبر له ، فهذا ما عرفته لاحقاً، ويبقى ضمن الاسرار التى ستتكشف لاحقاً اذا ما قدر لي نشر مذكراتي .
سيرة القيد والقلم، وان كان ينقصها بعض التفاصيل الحياتية والنضالية خارج سجون الاحتلال، التى لاتقل دراما عن سيرة نبهان في الاسر ، الا اني أعتقد أنه قصد التركيز على الاسر وقضية الاسرى كقضية مقدسة تستحق أن يقال فيها ما يقال، مما يجعل هذا الكتاب وثيقة مهمة تضاف الى وثائق اسرانا المناضلين في سجون الاحتلال ، وهو كتاب يستحق القراءة بتمعن .