في مثل هذا الوقت وقبل ثلاثين عاماً بالتمام والكمال، انهار الاتحاد السوفييتي وانهارت معه الكتلة الشرقية. وكان لهذا الانهيار انعكاساته المباشرة على الوضع الدولي وأدى إلى تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية على مستوى العالم، إلاّ أنّ الانعكاس الأهم كان على الحركات الثورية والتحررية في العالم وعلى حركة اليسار الدولي واشتقاقاته، ليس فقط لجهة الدعم الذي تكفلت به المنظمة الاشتراكية لهذه القوى وحسب، بل والأهم من ذلك الانعكاسات الفكرية والايدولوجية لقوى اليسار، وتجلّى هذا الانعكاس في المقولة التي سادت نسبياً أنّ هذا الانهيار يشير إلى انهيار للنظرية الماركسية الاشتراكية، في حين ظلت العديد من أحزب اليسار متمسكة بهذه النظرية باعتبار أنها ليست منهجاً جامداً بل هي منهج مرن لعلاقة الفكر المتكيّف مع الواقع المتغيّر.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مؤتمرها الخامس 1993 وهو الأول بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ناقشت بمنهجية نقدية هذا التطوّر الكبير وانعكاساته، معلنة التأسيس لتجديد ثوري مطلوب من خلال تجديد الماركسية والدفاع عن الخيار الاشتراكي والتمسّك بالهوية الفكرية، انطلاقًا من هذا التجديد والانفتاح على تطوير هذا الفكر من خلال تجديد الاجتهاد على أرضية الحوار الديمقراطي الذي من شأنه الاسهام والتجديد الواعي الهادف لإعادة الاعتبار لهوية الحزب كطليعة واعية ومنظمة ومكافحة، بالتوازي مع نقد التجربة السابقة ورسم الاستراتيجية والتكتيك وبناء الأدوات القادرة على بلوغ هذا الهدف.
استرشاد الجبهة الشعبية بالنظرية الماركسية ومنهجها المادي المتجدد المنسجم مع قضايا الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بمنأى عن مظاهر الجمود الفكري العقائدي، يدل على أنها قادرة على استيعاب واقع المجتمع الفلسطيني والعربي وخصوصياتهما ارتباطاً بالمتغيرات الراهنة عبر ممارسة يومية متواصلة متصلة مع الجماهير الشعبية، غير أنّ ذلك ليس بالأمر السهل كون الفجوة بين القضايا الفكرية والأيدلوجية وبين الواقع السياسي والاجتماعي، والأهم من ذلك كله الواقع التنظيمي، واسعة ومعقدة في ظل موازين القوى السياسية والاجتماعية الداخلية الفلسطينية والمحيطين العربي والدولي، ونعتقد أنّ قصور الواقع التنظيمي في هذا السياق يجعل من إمكانية الثبات على هذا الفكر أمراً بالغ الصعوبة في ظل تراجع الاهتمام بضرورة التزوّد بالمعارف الكافية والثقافة المتنورة لحساب اهتمامات لا تقل أهمية كالمجالات السياسية والعسكرية والاهتمامات اليومية، في انعكاس نسبي بين النظرية والتطبيق.
منذ تأسيسها وحتى انهيار المنظومة الاشتراكية أسهمت الجبهة الشعبية بشكلٍ متميّز وكانت الرائدة في إطار اليسار الفلسطيني في تشكل الوعي الوطني الثوري الفلسطيني عبر هويتها الفكرية الواضحة، سواءً لجهة التشديد على البعد الاستراتيجي للنضال الوطني، والتمسّك بكامل حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخية، أو من خلال الاسهامات الفكرية والسياسية والثقافية والتنويرية في الساحة الفلسطينية، من خلال أدواتها التنظيمية المزودة بالمعارف والمراجعات الفكرية التي كانت جزءا لا يتجزأ من نضالها اليومي والذي عكس نفسه في مؤتمراتها المتعاقبة بشكلٍ لافت؟
 وإذا كانت الجبهة الشعبية ما تزال نشطة في سياق نضالها السياسي والعسكري فإن اسهاماتها في مجال الفكر والوعي والثقافة ما زال متواضعاً، ويعود ذلك إلى غياب رؤية تضع الهوية الفكرية ضمن أولوياتها إلى جانب الأولويات الأخرى السياسية والعسكرية والاجتماعية ذلك أنّ فوضوية الهوية تؤدي إلى عدة مخاطر تعكس نفسها على السياسات كفقدان البوصلة – لدى عقد التحالفات مع القوى الأخرى – والأخطر من ذلك ترك التنظيم عرضة سهلة لتأثير الهويات الأخرى والتي تتعارض كلياً أو جزئياً مع الهوية الفكرية للجبهة كما ورد في مؤتمراتها المتعاقبة.