عكست الانتخابات البلدية في الضفة الغربية كل المناخات الفلسطينية المأزومة والمنقسمة، فقد قاطعتها حركة حماس وبما يعبر عن أزمة الانقسام التي تعيد استيلاد نفسها عند كل محطة كبيرة وحتى في التفاصيل، وفشلت القوائم الحزبية في الحصول على أقل من ثلث أصوات الناخبين، بما يعكس أيضاً تراجع الحالة الوطنية لصالح العائلات، وهو ما كان يجد له تعبيرات سابقة بأشكال أخرى.
قد يقول قائل: ليس مهماً من فاز بالنهاية هذه انتخابات ديمقراطية وأن الفائز هو جزء من هذا الشعب، فالأهم هو العملية الديمقراطية، وهذا صحيح، لكن في الجزء الآخر من المشهد ما يعترف بمزاج شعبي يشي بانفضاض الناس من حول القوى المنظمة، ما يعني الانفضاض عن المشروع الوطني لصالح مشاريع عائلية خدمية في أفضل الأحوال، وهذا المزاج الذي حاولت اسرائيل صناعته في سبعينيات القرن الماضي وفشلت عندما تم انتخاب ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية وسقوط القوائم الأخرى.
وبكل الظروف وفي ظل الجمود الذي أصبح السمة الطاغية للحالة الفلسطينية، فإن إجراء أي انتخابات هو تحرك على درجة من الأهمية، لكن اجراء الانتخابات في الضفة يحمل قدراً من المحاذير الخطرة ان لم يتنبّه لها الفلسطينيون فإن النتائج ستكون مأساوية وتمس عصب مشروعهم الذي غذوه بالدم والرجال والقهر والصبر، فمازال الشعب ينتظر حريته وليس مستعداً لأن ينتكس مشروعه أكثر على يد سياسيين تشوشت لديهم الحسابات في ذروة الضغوط وتراجعت الأولويات من الوطنية للحزبية وحتى للشخصية.
أول هذه المحاذير هو إجراء الانتخابات المحلية في الضفة دون غزة، ما يعني إضفاء شرعية فلسطينية على جريمة الانقسام والاعتراف بواقع كيانين فلسطينيين منفصلين، بل ومأسسة هذا الانفصال، حيث لكل مؤسسة قائمة في كل منطقة إجراء أو عدم اجراء الانتخابات بما لا يمس باستقلالها وغياب التنسيق أو الحد الأدنى من الممكن. وقد حدث هذا سابقاً ولكن استمرار تكراره يحول الخطأ الوطني الشاذ الى قاعدة ثابتة وبشكل أكثر وضوحاً يجعل من المشروع الإسرائيلي بالفصل بين المنطقتين أمراً طبيعياً ومقبولاً.
ثاني هذه المحاذير وهو الاكتفاء بإجراء الانتخابات البلدية وعدم استكمال سلسلة الانتخابات وهيكلة النظام السياسي الفلسطيني، أي عدم اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية يعني الوقوع في الكمين الاسرائيلي والذي اكتفى منذ سبعينات القرن الماضي بانتخابات بلدية عندما اكتشف بعد استكمال احتلال باقي فلسطين اثر حرب حزيران أن هناك مجموعات بشرية ليس لها حقوق سياسية بل خدمية، وأن هناك من يجب أن يقوم بهذا الدور من خلال الانتخابات وفي حالة انكار شديدة ورفض لأي دور سياسي.
في هذا مدعاة لخشية حقيقية وخصوصاً إذا كان الإسرائيلي هو من منع إجراء الانتخابات التشريعية ووافق على البلدية، فتلك وحدها كفيلة بإثارة كل علامات الاستفهام على ما يخطط له، فليس هناك مصادفات لدى إسرائيل حين يتعلق الأمر بحركة الفلسطينيين لأنه يعيق أمر ويمنع ما يتعارض مع برامجه ويسمح ويعطي ما يلزم من التسهيلات لما يتوافق مع تلك البرامج.
وقد تروج إسرائيل لاحقاً بأن المؤسسة التي يمكن التعامل معها هي المؤسسة البلدية باعتبارها الجهة المنتخبة الوحيدة ويمكن أن تحرض الاتحاد الأوروبي والعالم باتجاه هذه الفكرة. وقد كان هناك بعض الآراء في الاتحاد كأنها تتساوق مع الواقع الذي تفرضه إسرائيل، ويعزز هذه الفكرة التي صنعتها وسهلت لها ومهدت الطريق عدة عوامل؛ أولها أن السلطة الفلسطينية ضعيفة ولا تحكم قطاع غزة، وقد بدأت بعض التقارير الإسرائيلية تلوح لتراخي سيطرة السلطة مستغلة عدة أحداث في الضفة الغربية.
ثانيها أن السلطة الفلسطينية لم تجر انتخابات وأن الحكومة  القائمة هي حكومة معينة ولم يجر اختبار مدى تمثيلها للشارع والاحتكام لنتائج الانتخابات البلدية ستكون النتيجة في غير صالح مشروعيتها، لذا فان التعامل مع البلديات هو مع ممثلي الشعب الفلسطيني الذين جاؤوا للتو من الصندوق.
ثالثها إن الحريات لدى السلطة الفلسطينية آخذة بالانحسار وهو ما قد يجد صدى لدى الاتحاد الأوروبي والعالم الذي لا يريد أن يرى مساحة الحريات والقتل لدى الاحتلال، ولكنه يفتح عيونه وآذانه عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، يضاف اليها النموذج الذي تقدمه السلطة على صعيد القانون والقضاء.
لا يعني هذا أن الانتخابات البلدية فيما لو جرت في غزة وتبعتها انتخابات تشريعية ورئاسية سيخرج الوضع الفلسطيني  من عنق زجاجته الضيق، بل إن ذلك يشكل مدخلاً للمأزق الرئيسي وهو استمرار الحكم تحت الاحتلال والقبول بتجديد السلطة دون الوصول لحل الدولة وبما يشبه الحكم الذاتي، فالانتخابات وبتفاصيلها ليست أكثر من فكفكة عقد الانشطارات وإعادة تجميع للوحة الفلسطينية التي تناثرت شظاياها في كل الجهات، وبات إعادة تركيبها يحتاج الى ما يشبه المعجزة.
ولكن لو جرت الانتخابات سيكون الفلسطيني تجاوز هذه التفاصيل التي أغرقته في مستنقعها لتبدأ المرحلة الثانية الضرورية من التفكير بالمأزق الشمولي بطبيعة التجربة التي تتكرر منذ أكثر من ربع قرن، وثبت أنها أدخلت الحالة برمتها الى نفق شديد الظلام تآكلت خلاله كثير من عناصر القوة ورأس المال والأرض والفصائل، وبات الفلسطيني ونظامه السياسي برمته في الضفة وغزة ينتظر انفراجات تقررها إسرائيل وفقاً لحاجتها الأمنية بعد أن صنعت أزمة بل سلسلة أزمات للفلسطيني، أعادت جدولة أولوياته نحو القضايا المعيشية لتتراجع الأولويات الوطنية أمام غول الحاجة والفقر، وظلت تتحكم بمفاصل الحياة الاقتصادية والامكانيات، وتلك هي أم المآسي، ولكن لا يمكن التفكير فيها قبل التوحد وإعادة بناء النظام السياسي، ودون ذلك نكون وقعنا في الفخ.