لم يعد استنكار تصريحات رئيس القائمة الموحدة، منصور عبّاس، أمرا يجدي أي نفعٍ أو جدوى. الرجل أعلنها مرارًا وبشكل واضح؛ انحيازٌ للرواية الإسرائيليّة. لم يكن آخر تصريح له "إسرائيل ولدت دولة يهوديّة وستبقى"، زلّة لسانٍ أو خروجا عن السياق. ولم يكن أول تصريح له بهذا الشأن. الرجل يتقن فنّ الهبوط من حضيض إلى حضيض ويُقدّم عروضًا في السياسة تطرب لها الأذن الإسرائيليّة الصهيونيّة وصولًا للمستوطنين، فيحصل على تصفيق حار في مؤتمر "غلوبس" على تأييده ليهوديّة الدولة وعدم جدوى التظاهر أو النضال ضد قانون القوميّة، ويحصل على استضافات وَدودة في الإعلام الإسرائيلي الذي يفاجَأ مذيعوه بتصريحاته المتنازِلة عن أي ثوابت وطنيّة فلسطينيّة.

تراكمت تصريحات منصور عبّاس وأفعاله لدرجة قطعت الشك باليقين حول موقع هذا الرجل، بعد أن اتّخذ خطّه "البراغماتيّ الواقعيّ" في الدخول للحكومة الإسرائيليّة، مستعدًا للذهاب فيه حتّى النهاية، معوّلًا على "إنجازت" خدماتيّة قد يحصل عليها تمكِّنه من البقاء في لعب هذا الدور السياسيّ؛ "مختار عرب إسرائيل". إلّا أنّه حتّى هذه البرغماتيّة المتأملة بإنجازات عينيّة لصالح الفلسطينيين في الداخل، والتي أوهمت حركته وقسما من الجمهور بالمجازفة في الرهان عليها علّها تحصِّل لنا شيئًا؛ اتّضح أنّها غير متحقِّقة. وإن تحقَّق بعضٌ منها، فهي تضمن في تحقّقها مصالح التفوق والهيمنة اليهوديّة التي تكرّس حالةَ التمييز العنصريّ.

منصور عبّاس نموذج للقيادة العربيّة المريحة لإسرائيل والمطلوبة مستقبلًا بعد انقضاء تاريخ استعماله. قيادة تتنازل عن الثوابت والسردية التاريخيّة الفلسطينيّة التي تعمل إسرائيل على طمسها، وتتنازل عن الهويّة الوطنيّة وتقبل بدولة إسرائيل كدولة يهوديّة وتتنازل عن إحقاق العدالة والنضال الشعبي، تحت سقف المطالَبة بخدمات وميزانيّات.

لماذا كل هذا الغضب على شخص منصور عبّاس؟ بكل بساطة لأنه لا يمثّل نفسه بل يمثّل تيارا سياسيًّا عريضا (الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة) التي تبدو وكأنها متخبطة بالهويّة الجديدة التي خاطها منصور عبّاس، والتي لبستها بعد الدخول للحكومة الإسرائيليّة، فالثوب الجديد يتطلّب منها تأقلمًا لمقاس وشكل هذا الثوب الذي يناقض تاريخ الحركة وهويّتها. لذلك، نرى قسما من القيادات والكوادر ينتقدون أحيانًا أو يصمتون، في انتظار ربحٍ ما من الرّهان على طاولة القمار التي دخل إليها منصور عبّاس.

لكن أنتم الآن أصبحتم جزءا من حكومة إسرائيل وسياساتها وقوانينها ضدنا، ويحقّ للجمهور أن يعتبركم من الآن وصاعدًا واقفين خارج الصفّ الوطنيّ وأعداء لحقوق شعبنا الفلسطينيّ ومسيرته النضاليّة، ما دمتم تصمتون وتتمثّلون بمنصور عباس، حتى لو حاولتم إدانة بعض تصريحاته بشكل خجول بين الفينة والأخرى لحفظ ماء وجهكم.

فالدخول إلى منازلنا من قِبل الشرطة الإسرائيليّة دون تصريح قضائيّ في أي هبّة قادمة سوف يحصل بعد دعم نوابكم للقانون. التضييق على الأسرى في سجون الاحتلال سوف يحصل بمباركتكم. الاستيطان اليوميّ الوحشيّ الجاري في الضفة الغربيّة والقدس، وتهويد الجليل والنقب أصبح الآن ضمن مسؤوليتكم المباشرة. ميزانية الحرب الإسرائيليّة علينا مرّت برفع أيادي نوابكم. اعتراف الحكومة الإسرائيليّة ببعض القرى في النقب سيشمل تهجيرا ومصادرة أراضٍ سيحصل بموافقتكم. والقائمة تطول وتعرفونها جيدًا.

السماح لمنصور عبّاس في الاستمرار بقيادتكم وتمثيلكم يعني الشراكة مع كل هذا النهج والموافقة عليه. لم يعد الأمر يتعلّق بمحاولة تجريب صيغة سياسيّة أخرى من "التأثير" أو اجتهاد سياسيّ مختلف لتحصيل حقوق مشروعة، بل تحوّل الأمر إلى انبطاح كامل وأسرلة، فإمّا أن تتأقلموا مع هذا الثوب الجديد وتعلنوا لبسكم له بشكل واضح، وإمّا أن تخلعوه عنكم نهائيًا.

اقرأ/ي أيضًا | ما بعد تحرُّر الشيخ رائد صلاح