لا أحد يعرف إلى أين سيصل منصور عباس زعيم القائمة الموحدة والشريك الجديد لحكومة نفتالي بينيت، فكلما كسر الرجل أحد الخطوط الحمراء سارع للانتقال إلى مرحلة أخرى لكسر خطوط جديدة في استفزاز واضح للشعب الفلسطيني بكل فئاته التي أضيف إلى جدول بياناتها حديثاً خانة جديدة لادانة سلوك عباس المتلاحق.
فبعد أن وصف الأسرى بالإرهابيين وهو وصف أغضب الفلسطينيين لما للأسرى من حضور مقدس في الذاكرة الجمعية، وجاء ذلك بعد محاولاته الغريبة لإنقاذ نتنياهو آخرها الهروب من التصويت ليلة إسقاط زعيم الليكود ثم الانضمام لحكومة يترأسها أحد أبرز أقطاب اليمين الاستيطاني وتمرير ميزانية الاستيطان ودعم مشاريع ضد الفلسطينيين في إسرائيل، وصولاً إلى آخر الخطوط بالاعتراف بالدولة اليهودية، وربما لن يكون هذا الخط الأخير في مسلسل الاندلاق الذي يتبعه الرجل.
المساحات التي يذهب إليها منصور عباس تصيب الفلسطينيين بدهشة، فلم يصلها سوى من وضعهم الفلسطيني خارج مؤسساته الوطنية، أو من ساروا إلى حيث الاعتقاد أن العمل أو التعامل مع حكومات احتلالية يمكن أن يخفف من وطأة الاحتلال كزعماء روابط القرى أو الذين خرجوا من التاريخ الفلسطيني مكللين بتاريخ كان حكمه عليهم شديد القسوة.
فهو في تصريحاته يقول إن لديه أسلوباً آخر لخدمة الناس بعيداً عما يعتبره شعارات جوفاء ويقصد بها قطعاً الحقوق الوطنية، وذلك في سياق تمييز نفسه عن زملائه في القائمة المشتركة إذ يعتبر أن الحقوق الوطنية مجرد شعارات.
أزمة منصور عباس أنه بدا كمن يعتذر عن تاريخنا وعن سياسات أدركت مبكراً صعوبة أو استحالة التعايش مع الظلم ما لم يتم وضع حل نهائي للاحتلال أو الذهاب نحو المساحات التي يقررها، فقد تخلق تلك حلولاً مؤقتة عابرة ولكن النتيجة التي تحققت بالتجربة أنه لا يمكن التعامل مع الاحتلال إلا حين تتحول إسرائيل إلى دولة طبيعية بجانب دولة فلسطينية، وهنا أيضاً كانت أزمة دول التطبيع التي قفزت على واقع أكثر وضوحاً من محاولات إخفائه وهو أقوى كثيراً من تطويعه رغماً عنه.
يعيد عباس الأمور إلى نقطة الصفر قبل أن يبدأ الفلسطينيون كفاحهم.
عندما أنشئت إسرائيل تبقى فيها 156 ألف فلسطيني فرضت عليهم الدولة حكماً عسكرياً وسعت جاهدة إلى أسرلتهم.
وكانت رسالتها الوحيدة لهم: لا خيار أمامكم إلا التعايش تحت الحكم وبلا حقوق سياسية أو وطنية، وليس لكم سوى الحقوق المعيشية والحياتية البسيطة هذا إذا ابتعدتم عن الموضوع السياسي، وتعاملت إسرائيل مع عدد من المخاتير وزعامات عشائرية وأعطت لهم ما يكفي من الصلاحيات والتسهيلات، وعمل هؤلاء في الخمسينيات والستينيات على استقطاب الأصوات العربية لصالح الأحزاب السياسية القائمة وتحديداً مباي ومبام.
استمرت تلك السياسات لمدة عقدين ربما إلى أن بدأت تتبلور الحركة الوطنية مطلع سبعينيات القرن الماضي، وترافق ذلك مع نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير إلى أن تم الاصطدام بعد ثلاثة عقود من النكبة بالانتفاضة الأولى ليشكل السيد عبد الوهاب دراوشة الحزب العربي منشقاً عن حزب العمل لتبدأ الأحزاب العربية بالتبلور كمؤسسات مستقلة بعد إدراكها مسألتين؛ الأولى: استحالة العمل في إطار الأحزاب الإسرائيلية القائمة والثانية: أن هناك حقوقاً وطنية تتعلق بالهوية والامتداد الطبيعي لفلسطينيي الداخل لا يمكن التخلي عنها، وكان هذا نتاج الصدام الذي حصل والذي كان يتكئ على وعي يتراكم منذ السبعينيات في الداخل.
ما يفعله منصور عباس هو العودة إلى عصر الخمسينيات والستينيات بالتخلي عن القضايا الوطنية «يعتبرها شعارات» ومحاولة التعايش والمقايضة بدعم الأحزاب مقابل قضايا معيشية. والأسوأ في تجربته التي يعيدها دون الاستفادة من دروس التاريخ أن الفلسطينيين في الداخل قبل سبعة أو ستة عقود كانوا قد فقدوا توازنهم وتحت سيف الحكم العسكري وبلا حركة وطنية أو مؤسسات كانوا مضطرين للقبول بذلك الواقع ولم يكن اليمين الاستيطاني موجوداً حينذاك، لكن عباس يعيد إنتاج هذا الواقع في أسوأ صوره ولصالح يمين استيطاني لا يعترف بوجود الفلسطيني على هذه الأرض كشريك حتى.
ولكن هل يكفي انتقاد منصور عباس لتصويب حالة آخذة بالانهيار ؟ إذ إن الانتقادات لن تثني رجلاً قرر كما يقول «أن يسلك سلوكاً مختلفاً وجديداً» وهو ليس بالجديد كما قلنا بل يعيد إنتاج الفلسطيني الذي أرادته إسرائيل منذ إنشائها، ولكن المهم لماذا تجرأ عباس على أن يسلك هذا الطريق، والسؤال الأهم لماذا يؤيده جمهور من الفلسطينيين في الداخل؟
لا يمكن فصل النموذج الذي يمثله عباس وحزبه عن سياقات عامة للتراجع الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية وحالة فقدان التوازن التي يعانيها الفلسطيني في كل أماكن تواجده فالسياسات هي ابنة الواقع، وعلينا الاعتراف أن الواقع القائم يعيد إنتاج ثقافة الهزيمة التي تمثلها القائمة الموحدة، وإذا قلنا إن تلك السياسة كانت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لأن تلك عقود الهزيمة وغياب حركة وطنية والآن تتبدد الحركة الوطنية في حالة وهن وضياع تجعل من كل منطقة تبحث عن ذاتها وتخترع سياسات انتهازية متحررة من سطوة القيادة وهيبتها وإنجازاتها ودورها التاريخي.
فالمناخات العامة ليست بعيدة عن ذلك الفكر، فالحديث عن هدنة طويلة مع الاحتلال في غزة يعني التعايش وضمان استقرار حكم حركة حماس مقابل هدوء وقضايا معيشية، وما هو قائم في الضفة يعني أيضاً استمرار السلطة والحكم مقابل قضايا معيشية.
فلماذا يكون منصور عباس مختلفاً في ظل تلك المناخات وغياب حركة وطنية وانقسام فلسطيني واضح أنه تحول إلى دائم، وداس في طريقه كل الثوابت والسياسات وجعل الفلسطينيين يبحثون عن التعايش فقط ؟ وتلك رواية مدعاة للدراسة..!