يذكّر مقال طويل في صحيفة «لوموند» الفرنسيّة بمضيّ ثلاثين عاماً على إلقاء ميخائيل غورباتشوف، آخر الرؤساء في بلده، خطاباً يعلن فيه نهاية الاتحاد السوفياتي وهي نهاية أعلنت رسمياً مطلع العام 1992. لعلّ أهمّ ما في الخطاب الذي ألقاه الزعيم السوفياتي إشارته إلى أن من بين الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، على الرغم من كلّ ما يمتلكه من ثروات، تطلُّع الكرملين إلى دور في دول خارج حدوده. لم يلق خطاب غورباتشوف، الذي ألقاه في مثل هذه الأيّام من العام 1991، التغطية الكافية في وسائل الإعلام التي اعتبرت أن الرجل انتهى سياسياً قبل إعلانه عن نهاية الاتحاد السوفياتي.
في الواقع، كرّت سبحة تحرُّر الدول التي كانت في المحور السوفياتي وتلك التي كانت تدور في فلكه منذ ما قبل انهيار جدار برلين في تشرين الثاني 1989. عمليّاً تفكّك الاتحاد السوفياتي كدولة وكيان سياسي مع انهيار جدار برلين تمهيداً لإعلانه عن حلّ نفسه.
كانت نهاية الاتحاد السوفياتي نهاية لحقبة الحرب الباردة التي استمرّت نحو خمسة وأربعين عاماً. إذا كان من درس يمكن استخلاصه من كلّ تجربة الاتحاد السوفياتي، فإن هذا الدرس تختزله عبارة واحدة: لا يمكن بناء دولة تكون قوّة عظمى من دون اقتصاد قويّ ومتين.
أدرك غورباتشوف باكراً معنى أن المواطنين في الاتحاد السوفياتي يعانون وأن آلة الدولة السوفياتية كانت في خدمة مشروع لا أفق له. المفارقة أنّ فلاديمير بوتين الذي يحكم منذ العام 2000 يعتقد أنّ في استطاعته إعادة الحياة إلى الاتحاد السوفياتي وأن روسيا لا تزال القلب النابض للقوة العظمى التي خسرت الحرب الباردة. يسعى بوتين، مذ وجد نفسه في الكرملين، للتمدُّد خارج حدود روسيا. ما يفعله حالياً عندما يهدّد أوكرانيا يذكّر بالعدوانيّة التي مارسها الاتحاد السوفياتي في مناسبات عدّة بغية المحافظة على وضع القوّة العظمى بفضل السلاح. بواسطة دباباته، قمع الاتحاد السوفياتي الثورة في هنغاريا في العام 1956. لم يتوقف يوماً عن قمع الشعب البولندي الذي استطاع في نهاية المطاف استعادة حرّيته. قضى الاتحاد السوفياتي تحت شعار نظرية «السيادة المحدودة» على «ربيع براغ» في العام 1968. حيثما حلّ الاتحاد السوفياتي، الذي وضع يده في مرحلة معيّنة على اليمن الجنوبي وإثيوبياً، كان يحلّ البؤس والفقر والتخلّف وقمع الحريات وسلطان الأجهزة الأمنيّة وبطشها.
تكمن مشكلة بوتين في أنّه يرفض أن يتعلّم من تجربة الاتحاد السوفياتي. لديه حنين ليس بعده حنين إلى الحرب الباردة. يساعده في ذلك التغيُّر في أولويات الإدارة الأميركيّة التي باتت تهدّد لكنها لا تفعل. يستفيد بوتين أيضاً من وجود الصين التي استطاعت أن تكون قوّة اقتصادية يُحسب لها حساب ومن دخول الولايات المتحدة في منافسة معها. صارت روسيا حليفاً للصين ومنافساً لها في الوقت ذاته!
لا شكّ أن العالم تغيّر جذرياً في السنوات العشر الأخيرة. ما لم يتغيّر أنّ الاقتصاد لا يزال العامل الأهمّ في قياس قوّة الدول. وحده النجاح الاقتصادي يسمح للصين بالتمدُّد وذلك على الرغم من أن الإمبرياليّة الصينيّة مرفوضة في دول العالم الثالث في ضوء ممارسات ذات طابع انتهازي صرف. من يريد التأكّد من ذلك، يستطيع العودة إلى تجارب مختلفة للصين في دول أفريقية عدّة.
ما هو مخيف في ظلّ تجدُّد الحرب الباردة أنّ هناك أنظمة عدّة، في مقدمها نظام رجب طيب أردوغان في تركيا والنظام الإيراني، ترفض التعلُّم من تجربة الاتحاد السوفياتي. يتدهور سعر صرف الليرة التركية يومياً، فيما يرفض أردوغان أي تفسير منطقي لسرّ هذا التدهور. كلّ ما في الأمر أن الرئيس التركي اعتقد أنّه يستطيع استعادة مجد الإمبراطورية العثمانيّة. تجاهل أن تركيا دولة من دول العالم الثالث وأنّها لا تستطيع أن تكون لاعباً أساسيّاً في ليبيا وغير ليبيا. فشلت تركيا في تكريس نفسها لاعباً في سورية بعدما اعتقد رجب طيّب أردوغان أن الوقت يعمل لمصلحته. كان الشعب السوري مستعداً في العام 2011، بأكثريتّه السنّية، لقبول أيّ تغيير يتمّ على يد تركيا من أجل التخلّص من النظام الأقلوي الذي حوّل البلد إلى سجن كبير. لكنّ أردوغان فضّل المراوغة واعتماد سياسة المساومات إلى أن جاء الروسي وتحوّل إلى لاعب أساسي في سورية بالتفاهم مع الإيراني.
لا يدري أردوغان أنّ قوة تركيا من قوة اقتصادها وأن قوة اقتصادها تأتي من الاهتمام بالوضع الداخلي وتفادي مغامرات طائشة في البحر المتوسّط لا تستطيع دفع تكاليفها. هذا ما حدث بالفعل. لم يعد من حدود لانهيار الليرة التركية التي كانت أربع ليرات في مقابل الدولار في العام 2017، فإذا بها 17 ليرة وأكثر في مقابل الدولار اليوم.
ما ينطبق على تركيا – رجب طيب أردوغان ينطبق على النظام الإيراني الذي بات يسيطر عليه «الحرس الثوري». بدل انصراف النظام إلى معالجة الأزمات الداخليّة لإيران، إذا به يتدخل في العراق وسورية ولبنان واليمن. يفعل ذلك من منطلق أن «الجمهوريّة الإسلاميّة» قادرة على الهيمنة على المنطقة وإخضاع دولها العربيّة… وعقد صفقات مع «الشيطان الأكبر» الأميركي و»الشيطان الأصغر» الإسرائيلي من موقع قوّة.
عادت الحرب الباردة. ستستمر هذه الحرب طويلاً. أوروبا كلّها تشعر بأنّها باتت مهدّدة بعدما حشد بوتين نحو 170 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا. ثمّة مخاوف حقيقية من اجتياح صيني لتايوان، وهو اجتياح يثير مخاوف قوى آسيوية عدة مثل اليابان وكوريا الجنوبيّة…
لا شكّ أن ضعف إدارة جو بايدن، خصوصاً في ضوء الطريقة التي انسحبت بها من أفغانستان، يثير لعاب قوى كثيرة في العالم. وحدها الصين قد تكون قادرة على الاستفادة من هذا الضعف. يعود ذلك إلى نجاحها الاقتصادي قبل أيّ شيء آخر. في المقابل، إنّ دولاً مثل روسيا وتركيا وإيران لن تكون قادرة على الدفاع عن أي مكاسب تحققها. كلّ ما في الأمر أن اقتصادها لا يسمح لها بذلك!