وُصف اللقاء الذي تم بين الرئيس الفلسطيني ووزير الأمن الإسرائيلي، بـ«التاريخي»، فهو أول لقاء يجري داخل إسرائيل منذ إحدى عشرة سنة، مع أن لقاءات الإسرائيليين مع عباس طيلة هذه السنوات لم تنقطع، ولكن في رام الله.
فوجئ كثيرون باللقاء؛ خصوصاً أولئك الذين بالغوا في تقدير جدية اللغة المتشددة التي دأب عباس على استخدامها، منذ خطابه الناري الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي وجَّه فيه إنذاراً لإسرائيل، هددها فيه بقرارات حاسمة غير مسبوقة، كالتنصل النهائي من اتفاقات أوسلو، والذهاب إلى حل الدولة الواحدة، أو العودة إلى قرار التقسيم، ذلك إذا لم تُنهِ إسرائيل احتلالها للأراضي الفلسطينية خلال سنة.
لم أُفاجأ بلقاء غانتس الأخير، إلا أنني فوجئت باللغة النارية التي دأب عباس على استخدامها، لمعرفتي بالرجل، ورسوخ قدميه في مسألة السلام مع إسرائيل. ولقد كان منسجماً مع نفسه وفكره وسياساته حين قال إن بديل المفاوضات المتعثرة هو مزيد من المفاوضات. وحتى حين اضطر إلى استخدام لغة التهديد في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنه لم يغادر منطقة البحث عن فرص لإحياء عملية السلام، مستخدماً كل الأدوات والأدبيات التي تنتسب إلى حقبة المفاوضات، مثل المؤتمر الدولي على غرار أنابوليس، وإحياء «الرباعية الدولية» صاحبة خطة خريطة الطريق، ومناشدة إدارة بايدن لبذل جهد لاستئناف المفاوضات التي لم يتوقف عباس عن اعتبارها الخيار الأساسي له ولسلطته، ولمنظمة التحرير التي يقودها من دون معارضة تُذكَر من داخلها.
غير أن ثبات عباس على خطه الأصلي، وإن كان ملائماً للإدارة الأميركية ولمعظم أعضاء الحكومة الإسرائيلية، حكومة نفتالي بينت، فإنه يبدو في زمن انهيار عملية السلام أشبه بمن يحاول فتح ثغرة في الجدار الأصم بإبرة، أو أنه يستخدم عملة تم استبدال عملة أخرى بها؛ ذلك أن مشروع السلام التفاوضي مع إسرائيل فقد جميع داعميه الذين تحولوا إلى مشروع آخر، هو اعتماد المسار الاقتصادي، وحجر الزاوية في هذا التحول كان فيما مضى: ترمب – نتنياهو، والآن: بايدن – بينت، مع بعض التحسينات التجميلية التي تتولى الإدارة الأميركية إسباغها على المعادلة الجديدة.
لقاء عباس- غانتس في بيت الأخير، والتفسير الإسرائيلي الرسمي له، لا يشجعان على توقع تقدم، ولو كان طفيفاً، على المسار السياسي؛ ذلك أن غانتس لا يحمل من حكومته أكثر من تفويض محدود في مجال تسهيلات تُقدَّم للسلطة، ولقد عبَّر عن ذلك حين قال إن المحادثات تناولت شكر السلطة على جهودها في مجال التنسيق الأمني، وإنه تعهد بمواصلة العمل على إعادة بناء الثقة بين الجانبين. أما الحديث عن الأفق السياسي فكان من الجانب الفلسطيني.
لا يُبنى الكثير، ولا حتى القليل، على اللقاء الذي وُصف بالتاريخي، ذلك أن التحول باتجاه التمهيد لإحياء المفاوضات لن يبدأ إلا حال توفر ثلاث إرادات حاسمة في هذا الأمر؛ أولها بالطبع الإرادة الإسرائيلية التي تبدو مستحيلة، والإرادة الأميركية التي تقيم وزناً أساسياً للإرادة الإسرائيلية، والواقع الشرق أوسطي الذي يتأثر به الوضع الفلسطيني المنقسم، والذي لم يعد يهتم بالسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين كأولوية. وإذا كان الشروع في المفاوضات السياسية أمراً مستحيلاً في غياب الإرادات المؤثرة، فلم يبقَ على الطاولة سوى الحل الاقتصادي، أو الإسعافي الذي يتولى غانتس بوصفه حامل الملف الأمني العمل عليه.
الرئيس عباس سيظل يواصل الحديث عن أهمية السلام والمفاوضات واحترام القانون الدولي، كأدبيات لا مجال للتراجع عنها، إلا أنه في الوقت ذاته لا يستطيع إغلاق الأبواب أمام الحل الاقتصادي.