مضى العام 2021 بما له وما عليه، وهو ليس سيئًا كله. فقد شهد لحظات مظلمة، أبرزها إلغاء الانتخابات العامة، وجريمة قتل نزار بنات، والقمع الذي شهدناه ضد المحتجين عليها، وتعمق الانقسام وسيره الحثيث نحو الانفصال، وبدء تعاطي السلطة المتدرج والمتلاحق مع السلام الاقتصادي تسليمًا بتعذر استئناف المسيرة السياسية، كما يظهر في اللقاء الذي عقده الرئيس محمود عباس مع بيني غانتس في بيت الأخير، ما سبب غضبًا واسعًا، سياسيًا وشعبيًا، لتوقيته ومضمونه وشكله ونتائجه ودلالاته.

كما شهد العام الماضي لحظات مضيئة عديدة، أبرزها المقاومة المستمرة بكل أشكالها، وإن بوتائر متفاوتة ومنخفضة ومتنقلة، وهبات شعبية قبل أيار وفيه وبعده، وتحديدًا هبة القدس التي انتشرت إلى الداخل والضفة وجميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، وأدت إلى نصرة غزة للقدس بإطلاق الصواريخ على تل أبيب والقدس وبدء معركة سيف القدس، إضافة إلى تحرر الأسرى الستة من نفق الحرية.

المنهج الذي أعتمده في عرض وجهة نظري في السيناريوهات المحتملة في هذا العام لا يمت بأي صلة للتنجيم وقراءة الفنجان والغيبيات، وإنما محاولة لقراءة سير الأحداث من خلال دراسة العوامل المؤثرة عليها في ضوء ما حدث في الماضي، وما هو كائن في الحاضر، والمتغيرات الحاصلة والمحتملة، واللجوء إلى الحدس المتولد في ظل الخبرة المستفادة بعد عشرات السنين من متابعة الحدث الفلسطيني بأبعاده العربية والإقليمية والإسرائيلية والدولية.

سيكون هذا المقال باكورة مقالات تتناول موضوعات عدة، مثل كيف يمكن أن نجعل هذا العام عامًا للصمود وبداية للنهوض العظيم، وحول واقع المنظمة ومستقبلها، وفرص تحقيق الوحدة الوطنية، والانتخابات العامة، ومصير السلطة وقطاع غزة، واحتمالات إحياء التسوية، والخيارات والحلول، ومصير حركتي فتح وحماس واليسار والتيار الثالث، واحتمالات تثبيت التهدئة والشروع في إعادة الإعمار وإتمام صفقة تبادل الأسرى.

قبل كل شيء لا بد من التأكيد على ما يأتي:

أولًا: لن أتطرق في المقالات التي سأنشرها تباعًا باهتمام كافٍ لما يجري في إسرائيل والإقليم والعالم، وتأثيراته الكبيرة على ما يجري في فلسطين، كونه بحاجة إلى مقالات أخرى خاصة بها. فإسرائيل والإقليم والعالم في مرحلة انتقالية شهدت ويمكن أن تشهد تغييرات جوهرية حاسمة، إذ لا نبالغ في القول إن العالم القديم أحادي القطبية يواصل انهياره والعالم الجديد متعدد أو ثنائي القطبية يطل برأسه بقوة، ولم تتحدد معالمه كاملة حتى الآن، وهذا يوفر فرصة تاريخية كبرى إذا أحسن الفلسطينيون استغلالها.

ثانيًا: أنا لا أتوقع أو أتنبأ بما سيجري في المستقبل، فهذا رجم في الغيب، ولا يعرف الغيب إلا الخالق القادر على كل شيء، بل أشير إلى السيناريوهات المحتملة من دون يقين ولا اعتبار أن هذا السيناريو أو ذاك سيحدث بنسبة 100%، فهناك سيناريو مرجح وآخر مستبعد وثالث محتمل … إلخ، وأن نسبة تحقق هذا السيناريو أو ذاك ليست ثابتة ولا مقدسة، بل تتغير باستمرار في ظل حدوث متغيرات متوقعة، أو عندما يحدث متغير أو متغيرات مستبعدة وقليلة الحدوث، ولكنها إذا حدثت تسبب تغييرات كبيرة نوعية، وهذا المتغير المستبعد يمكن أن يكون سيئًا جدًا ويسبب ما يسمى سيناريو اللعنة الذي سيؤدي إلى تدهور واسع في الأوضاع. ومثال على ما ذلك، وباء كورونا الذي لم يتوقع أحد حدوثه، وهو أحدث تغييرات كبيرة على العالم منذ سنتين ولا يزال مفعوله مستمرًا حتى الآن، وربما لعام أو عامين قادمين، وربما أكثر.

ويمكن أن يكون تحول الانقسام إلى انفصال، أو اندلاع اقتتال ونشوب فوضى في الساحة الفلسطينية على خلفية الصراع على الخلافة أو غيرها، من العناوين، أو تعميم الاتفاقات الإبراهيمية، أو يمكن أن يكون المتغير الحادث إيجابيًا ويسمى سيناريو المعجزة، ومثال ذلك إنجاز الوحدة الفلسطينية على أساس شراكة كاملة وبرنامج وطني كفاحي، أو اندلاع انتفاضة أو تغيير إيجابي في إحدى البلدان العربية المركزية، أو في الإقليم، أو العالم.

ثالثًا: لا يهدف عرض السيناريوهات التمتع بالعلم بها لمجرد المعرفة فقط، وإنما من أجل رؤية كل الاحتمالات والاستعداد لها، حتى لا تدهمنا الأحداث ونحن غير مستعدين لها، فتتضاعف الخسائر والأضرار، والعمل – وهذا هو الأهم – لمنع أو الحد من آثار السيناريوهات السيئة والأسوأ، وتحسين فرص وتقريب موعد حدوث السيناريوهات الجيدة والمفضلة.

رابعًا: ما يضمن عدم حدوث الأخطاء أو تقليلها أو الحؤول دون أن تكون أخطاء جسيمة عدم إسقاط الرغبات والتمنيات على الواقع، والابتعاد عن اليأس والعدمية، أو عدم دراسة أي سيناريو، سواء لأنه مستبعد جدًا أو كونه غير مرغوب به، أو ضارًا أو كارثيًا، بل لا بد أن تستند احتمالية كل سيناريو إلى نظرة موضوعية مجردة، والخبرة التاريخية التي تفيد بإمكانية حدوث ما كان يتصور استحالة حدوثه، لأن المعرفة البشرية مهما تقدمت تكون محدودة ونسبية وقاصرة عن الإحاطة بكل شيء، فلا بد من ترك مساحة لما يعتقد بأنه مستحيل، ووضع كل سيناريو بوزنه الفعلي بالرجوع إلى العوامل والمؤشرات والمؤثرات ودراستها وفق مناهج البحث العلمي والتفكير الإستراتيجي والدراسات المستقبلية.

خامسًا: حتى تنجح عملية استشراف المستقبل وترفع القدرة على صناعته وليس انتظار حدوثه بسلبية، يجب أن تبدأ بتشخيص دقيق للواقع بكل جوانبه، فالمستقبل وليد الحاضر، والحاضر نتاج الماضي، وبالتالي طرح سؤال “أين نقف؟” والإجابة الصحيحة عنه في منتهى الأهمية.

على سبيل المثال، إن تشخيص الواقع الفلسطيني الحالي انطلاقًا من أن إسرائيل ستزول في هذا العام كما استنتج أحد الشيوخ منذ أكثر من ثلاثين عامًا نتيجة نبوءة أو صدف رقمية شيء، أو نتيجة تفاقم المآزق ونقاط الضعف الإسرائيلية وأن إسرائيل في مرحلة هبوط وأفول إستراتيجي يستكمل حلقاته خلال سنوات عدة، فهذا شيء آخر.

وشيء ثالث مختلف كليًا إذا كان التشخيص بأن إسرائيل حاليًا قوية جدًا، اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، ولها تحالفات عميقة خصوصًا مع أقوى دولة في العالم، وتحقق اختراقات مهمة في عدد متزايد من الدول العربية، وأنها مع ذلك تعاني من أزمات ونقاط ضعف عديدة، ولها منافسون أقوياء في الإقليم، والقضية الفلسطينية لا تزال حية، والشعب الفلسطيني لا يزال مصمم على تجسيدها، ونصفه صامد على أرض وطنه، تجعلها من الممكن أن تهزم في المستقبل إذا تفاقمت أزماتها واستطاع خصومها وأعداؤها توفير مستلزمات النصر الذي يمكن أن يحدث في عقد أو عقدين، أو بعد عقود عدة، وهذا يتوقف على عوامل ومتغيرات كثيرة، منها ما هو محلي، وما هو إقليمي ودولي.

إذا كان التشخيص الأخير هو الأقرب للصحة وللدقة، فهذا يعني أن المرحلة الحالية التي يمر بها الشعب الفلسطيني هي مرحلة تحرر وطني، ويواجه فيها تكثيف محاولات المشروع الصهيوني الاستعماري لاستكمال تحقيق أهدافه بتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، مستغلًا حالة الضعف والانقسام والتوهان الفلسطيني، وتردي الوضع العربي، لدرجة دخوله مرحلة التتبيع العربي لإسرائيل من دول عربية عدة، لذا فالفلسطينيون في مرحلة صمود ودفاع إستراتيجي عن وجودهم وقضيتهم وحقوقهم وأرضهم وهويتهم الوطنية ومؤسساتهم الوطنية الجامعة وبقية مكتسباتهم، وتكون أهدافهم منع العدو من تحقيق أهدافه ومخططاته، وتقليل الأضرار والخسائر، وإبقاء القضية حية وجذوة المقاومة مشتعلة وبقاء التواجد الفلسطيني على أرض الوطن.

إذا كان التشخيص كما ذكرت آنفًا فهذا يستدعي إستراتيجيات دفاعية تلجأ إلى الهجوم أحيانًا بقصد الدفاع، أي أننا لسنا في مرحلة تحقيق إنجازات وانتصارات كبرى، مثل تحرير الأرض، وإنهاء الاحتلال، وتجسيد الدولة، ولا تحقيق حق العودة، ولا المساواة الفردية والقومية، ولا إقامة الدولة الواحدة بعيدًا عن الصهيونية ونظام الامتيازات العنصري.

الآن الرواية التاريخية الفلسطينية في خطر، إذ تجري محاولات لطمسها وتشويهها وتقديم الرواية الصهيونية بألسنة عربية، وتجري محاولة لتصفية قضية اللاجئين عبر التوطين وتغيير تعريف اللاجئ، وحل وكالة غوث اللاجئين أو تغيير تفويضها.

والأرض الفلسطينية كذلك في خطر بعد أن بلغ عدد المستعمرين المستوطنين أكثر من 913 ألفًا في الضفة المحتلة. والقدس في خطر شديد، إذ تجري محاولات مستميتة لاستكمال تهويدها وأسرلتها. والقضية في خطر في ظل المحاولات لفرض السلام الاقتصادي عليها بمشاركة فلسطينية بحجة عدم وجود بديل، ودعم أميركي وعربي، وتغاضٍ إلى حد التواطؤ دوليًا، وهذا ليس فقط في الضفة، بل يجري أيضًا في قطاع غزة (تهدئة مقابل اقتصاد وتخفيف حصار) على الأقل، وإن كان مختلفًا من حيث الأسباب والدوافع إلا أنه من حيث النتائج لا يختلف كثيرًا عما يجري في الضفة.

وما يجري في الداخل شبيه، أيضًا، ضمن الخصوصية التي يعيشها شعبنا هناك، إذ الصراع على أشده بين تيار الاندماج والأسرلة من جهة، والتيار الوطني الذي يجمع ما بين المطالب الوطنية والمطالب والحقوق المدنية والديمقراطية من جهة أخرى، بعد أن شهدنا لجوء قوة سياسية لها جمهور للمشاركة في حكومة صهيونية مغرقة بالتطرف والعنصرية، ويتحدث رئيسها الفلسطيني بالفم الملآن عن أن إسرائيل ولدت دولة يهودية وستبقى كذلك.

قد يكون العام 2022 عامًا لمواصلة التدهور والسقوط، أو عامًا للصمود والشروع في النهوض الكبير، وهذا ما سنتوقف أمامه في المقال القادم.