ياسر، محمد، حمادة، يزيد، زيد، براء، حمادة، مؤمن، معتز تسعة فتيان في ريعان الصبا، بل تسعة أطفال، سقطوا ضحايا أبرياء في حادث مروري جنوني بمنتهى القسوة.
كان نداء لقمة الخبز أقوى من نداء التعليم ومقعد المدرسة، وكان نداء لقمة الخبز أقوى من نداء الحق في طفولة سعيدة واستحقاقاتها المتمثلة في نمو جسمي وعقلي ونفسي طبيعي. خسارة نوعية صادمة تضاف إلى مسلسل الخسارات التي تلحق بالمجتمع وبالأطفال على نحو خاص، فلم تجف بعد دماء 60 طفلا سقطوا جراء عدوان 2021 الذي استهدف قطاع غزة، ولم تغب عن ذاكرتنا جريمة قتل 551 طفلا جراء عدوان 2014، وبخاصة جريمة قتل أطفال عائلة بكر الأربعة خلال لعبهم على شاطئ غزة.
نكأت محنة أطفال عقربا الجراح، وما أكثر الجراح التي ما أن تلتئم لبعض الوقت حتى يعود النزف والألم، وتعود المعاناة في صراعنا المفتوح مع استعمار استيطاني إقصائي فرض نفسه فوق القانون والمساءلة.
في كل مرة نعبر ثيمة الحزن والأسى مهما كانت قاسية، بالتضامن الشعبي الصادق الذي تحول إلى أحد طقوسنا الاجتماعية الجميلة. لكن هذا التضامن يبقى دون تأصيل في غياب معرفة الأسباب والدروس من الأحداث التي تصنع مأساتنا.
التضامن والصبر والقدرة على التحمل والتغلب على الحزن عناصر قوة شديدة الأهمية. لكنها ليست خاتمة فارقة لتجاوز المسببات وعدم التكرار. ما بعد التضامن هناك أسئلة كثيرة من المفترض أن تطرح على بساط البحث، كدور وسائل الإعلام ومنظمات الاختصاص في تقديم قصة حياة كل شهيد بما هو إنسان، والإجابة عن الأسئلة التي تدور في خلد كل مواطن، مثلاً هل ترك الفتيان مدرستهم والتحقوا بسوق العمل؟ أم أنهم ذهبوا للعمل في أيام العطلة المدرسية؟ وإذا ما تركوا المدرسة، مع أن نسبة التسرب في المدارس منخفضة 9.0%  أو جمعوا بين المدرسة والعمل فما هي الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك؟ ربما يكون الجواب بديهياً وهو حاجتهم للمال، ولكن عندما يكون العمل أهم من التعليم، فهذا يطرح دور التعليم ونوعيته وجدواه وعلاقته بالتنمية وحاجة المجتمع للتطور.
وما بعد المشهد التضامني العتيد، تحضر مشكلة العمل في المستعمرات الإسرائيلية، ليس من الزاوية الوطنية وحسب، حيث من المفترض إيجاد بديل لكل العاملين في المستعمرات ومشاريع الاحتلال العسكري، انسجاما مع الهدف المركزي المتمثل بإنهاء الاحتلال الاستيطاني.
إن عدم طرح هذه المسألة على محمل الجد يحمل السلطة والمنظمة والأحزاب والتنظيمات والرأسمال الفلسطيني المسؤولية الكاملة عن تحول العمالة في المستعمرات إلى أمر واقع. الزاوية الأخرى لعمل الأطفال في المستعمرات هي طبيعة العمل، فيما إذا كان يضر بصحة ونمو الطفل ويتناسب مع نموه الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي، ولا يلحق الضرر بتحصيله العلمي، فضلاً عن الالتزام بعمر 15 عاماً كحد أدنى لأنواع من العمل والالتزام بوقت عمل ملائم لهذه الفئة العمرية، والأهم ضمان أن لا يَحرق الأطفال مرحلة الطفولة ويقفزوا عن طفولتهم بالمفهوم التربوي الثقافي، ويتعاملوا ويُعاملوا كما الكبار.  
للأسف الشديد تسود ثقافة مجتمعية تشجع على تجاوز الأطفال لطفولتهم في العمل وفي المشاركة بمهمات نضالية بمستوى البالغين، وفي الزواج المبكر كما يحدث مع فتيات دون الـ18 عاما.   
يجدر القول إنه في غياب مرجعيات نقابية مهنية وتربوية من المشكوك فيه أن عمالة الفئات العمرية ما دون الـ15 وما دون الـ18 عاما تخضع للمعايير والقوانين المنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، وقوانين العمل المعمول بها في فلسطين.  
من الواضح أن المستعمرين ومقاولي العمالة لا يتعاملون مع تلك المعايير وكل ما يهمهم هو توفير عمالة رخيصة تؤمن أرباحا كبيرة، وليذهب العمال الأطفال إلى الجحيم.
لا شك في أن واقع "العمال الأطفال" المأساوي في المستعمرات وداخل الخط الأخضر، ينسجم مع سياسة الاحتلال القمعية العدوانية التي لها حصاد وافر من الضحايا الشهداء والجرحى والمعتقلين الأطفال، كما تعرضه إحصاءات المنظمات الحقوقية الدولية والإسرائيلية.
إن التنكر الإسرائيلي لأبسط الحقوق الوطنية والإنسانية والمدنية الفلسطينية، ينعكس أولا على الفئة الحيوية من المجتمع الفلسطيني ما دون الـ18 عاما والتي تناهز الـ50% من العدد الإجمالي من المواطنين. فالتفكيك الإسرائيلي لمجتمعنا بعد فصله عن الأرض، يبدأ من هذه الفئة. والبناء على الجهة الأخرى يبدأ من هذه الفئة.
وفي الوقت الذي تواصل فيه قوة الاحتلال عملية الهدم والتفكيك استنادا للحكم الاستعماري العنصري، لا يحدث بناء مضاد استناداً لمنظومة التحرر وعمادها الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تلبي المصالح والحقوق الوطنية والعدالة.
وإذا كانت السياسة الاستعمارية العنصرية واضحة ومفهومة ومنسجمة مع الأطماع والنهب والتمييز والتوحش الملازم دوما لكل القوى الاستعمارية، فإن سياسة العجز واللامبالاة  والبيروقراطية وتكرار المواقف من جهة، والمقامرة بحياة ومصير الشعب ن الجهة الأخرى تضعنا أمام حائط مسدود.
السياستان المتبعتان من السلطتين وأحزاب الموالاة وأحزاب المعارضة لا تتناسبان في أحسن الأحوال مع عملية التفكيك والنهب الاستعماري المنظم، ولا تسمحان ببناء من داخلهما ومن خارجهما يحاكي التحديات الكبيرة.
حتى السياسة المرورية لا تشذ عن القاعدة، فمن يراقب فيديو الحادث، سيجد شاحنة مسرعة تواصل اندفاعها مع وجود مفترق، والسيارة التي تحمل العمال تقطع المفترق، لم يشرح ضباط المرور الأخطاء التي قادت إلى موت تسعة فتيان بعمر الورود.
إذا أجرينا مقاربة مع أخلاقيات المرور المعمول بها لدى فئة غير قليلة من الذين يقودون المركبات في رام الله، لا يتفاجأ المواطن بهذا الحادث وبغيره من الحوادث.
يوميا أشاهد أثناء تنقلي من البيت إلى العمل وبالعكس، تجاوزات مرورية في "الكوربات" والمنحنيات التي يحظر فيها التجاوز، أحيانا تحول الصدفة دون وقوع حوادث، وفي أحيان أخرى تقع حوادث وخسائر مادية وبشرية، كثير من السائقين لا يعترفون بأولويات المرور ويمارسون عكسها، ولا يعترفون بتخفيف الإضاءة ليلاً ويستخدمون الضوء العالي دائما ما يتسبب في إرباك رؤية زملائهم في الجهة الأخرى.  
والملاحظ أيضاً أن إجراءات سلامة المرور لجهة المراقبة ومتابعة المخالفين ومعاقبتهم وبث ثقافة مرورية هي أمور غير ملموسة في بلادنا.