يرتبط مفهوم الاستدامة بشقين متلازمين هما كوكب الأرض والإنسان. لا يمكن للإنسان أن يتمتع بحياة آمنة إلا إذا قام بالحفاظ على جودة عناصر بقائه الموجودة في باطن الأرض وما عليها من ماء وهواء وتربة. ويمكن النظر للاستدامة على أنها نهج يتم من خلاله حماية الأرض لينمو الإنسان ويتمتع بالسلام والازدهار عبر الأجيال المتوالية.

تعتبر الحروب والنزاعات المُسلحة من أهم التحديات التي تعرقل سير التقدم نحو الاستدامة، خاصة إذا طال أمدها. ينطبق هذا على فلسطين التي ما زالت استدامة أرضها وشعبها تشكل هدفاً استراتيجياً على طريق التحرر من الاحتلال الإسرائيلي . لذا فإن تبني فلسطين لنهج الاستدامة، بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، هو مصلحة وطنية ومسؤولية وواجب. وربما يكون الإدراك بضرورة تبني هذا النهج، هو أحد الأسباب التي دفعت فلسطين الى الالتزام المبكر بتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، وباتفاقية باريس للمناخ.

في عام 2016، التزمت حكومة فلسطين بتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 . تلى ذلك إصدارها لأجندة السياسات الوطنية 2017-2022 الشاملة على الأولويات الوطنية والمنسجمة مع مؤشرات الاستدامة. وكغيرها من الخطط الوطنية السابقة، شكلت سياسات الاحتلال الإسرائيلي وممارساته المدمرة العقبة الرئيسية أمام تحقيق الاستدامة في فلسطين.

منذ عام 1967، والشعب الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي ما زال يعمل بتسارع وكثافة ومنهجية على استلاب الموارد الفلسطينية واستنزافها، وانتهاك حقوق الفلسطينيين والإضرار بالبيئة الفلسطينية وتدمير بنيتها الاقتصادية.

على الصعيد البيئي، تستمر إسرائيل في تدمير البيئة الفلسطينية واستهلاك مواردها الطبيعية والسيطرة على مياهها. إضافة لذلك، وظّفت إسرائيل سياساتها وممارساتها لتقويض الجهود الفلسطينية نحو الاستدامة. شملت الممارسات الإسرائيلية الاستيطان وإقامة جدار الفصل العنصري وبناء الطرق الالتفافية وتفتيت المناطق الجغرافية وحصارها وعزلها عن بعض. كما ضمت تجريف الأراضي، وهدم المباني وقلع الأشجار.

 سلبت إسرائيل مئات الآلاف من الدونمات الفلسطينية وأقامت عليها المستعمرات وأماكن التدريب العسكري التي بدورها دمرت البيئة وأضرّت بالتنوع الحيوي وغيرت طابعها الديمغرافي وساهمت في عزل المدن الفلسطينية عن بعضها البعض. ويمتد الأثر السلبي للمستوطنات ليشمل تحويل الأراضي المجاورة لها الى مكبات للنفايات وأماكن للتخلص من المياه العادمة. وتقيم إسرائيل مصانعها الملوثة للبيئة، كمصانع جيشوري، على حدود المناطق الفلسطينية وتستخدمها كمكبات لنفاياتها الصلبة والسائلة وتنطلق مخلفاتها الغازية السامة لتلوث الهواء .

تقع مصانع جيشوري الثلاثة عشر على 50 كيلومتراً من الأراضي الحدودية لمنطقة طولكرم. وتضم مصانع لتدوير النفايات والسولار، وإنتاج حاويات الغاز، والأسمدة الكيميائية، والمبيدات الحشرية، والمنتجات البلاستيكية وغيرها. جلب التلوث البيئي الناجم عن هذه المصانع تزايداً ملموساً في أعداد المصابين بأمراض السرطان والربو في منطقة طولكرم.  

 أقام الإسرائيليون جدار الفصل العنصري على الأراضي الفلسطينية، ودمروا المناطق الزراعية الخصبة حوله وقضوا على الحياة البرية فيها ومنعوا الوصول إليها. شوه الجدار الامتداد الطبيعي للبيئة وقطع أوصال الشعب الفلسطيني وتسبب في سلوكهم لطرق أطول وأخطر في التنقل بين البلدان الفلسطينية.

تستمر إسرائيل في فرض حصار خانق على قطاع غزة وأهلها منذ 14 عاماً. إضافة للحصار، يتكرر العدوان الإسرائيلي على غزة مستهدفاً قتل السكان وتدمير المباني السكنية والصحية والمصانع والبنية التحتية. تسبب الحصار والعدوان المتكرر في حدوث كوارث بيئية نجمت عن تراكم كميات هائلة من مخلفات المباني المهدمة، وانتشار سحب الغازات والمواد الكيماوية السامة الناجمة عن استخدام الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً. شكل معالجة هذه المخلفات معضلة كبيرة في ظل الحصار ومنع دخول المواد وأدوات المعالجة، ما سمح بتسربها الى التربة ومياه البحر وشبكات المياه، فلوثها.

 لقد شهدتُ وزملائي، أثناء زيارتنا لقرية جحر الديك ( وادي غزة)، عقب العدوان الإسرائيلي عليها عام 2009، كيف تم تدميرها بالكامل. لقد راعنا منظر المباني المهدمة والأرض المجرّفة وخلو القرية ذات التربة الخصبة من جميع نباتاتها وأزهارها البرية وطيورها ومزارعها الحيوانية، ومن سكانها الذين شُردوا. وعلى الطريق الى المكب الرئيسي لنفايات غزة، رأينا الحيوانات والطيور البرية نافقة من تأثير مخلفات القنابل الفسفورية. كما شعرنا بحكة شديدة في وجوهنا، تبعه انهمار دموعنا لدرجة منعتنا من الرؤية ودفعتنا للعودة بعيداً عن المكب قبل وصوله بثلاث كيلومترات.

على الصعيد الاجتماعي، ضربت إسرائيل عرض الحائط باتفاقيات حقوق الانسان فما زالت تقتل الأطفال والنساء وكبار السن وتعتقلهم وتنكّل بهم . وهي مستمرة في الاستيلاء على بيوت الناس وتشريد أهلها، خاصة في القدس والخليل.  

أقامت إسرائيل الحواجز ونصبت نقاط التفتيش على مداخل المدن الفلسطينية ونكّلت بالمسافرين وعرقلت حركة التنقل والتواصل بما يشمل وصول الطلبة إلى مدارسهم وجامعاتهم، والمرضى والأطباء إلى المستشفيات، والموظفين إلى أماكن العمل، وحدّت من تواصل المقدسيين مع أهلهم في الضفة الغربية وغزة.  

 أثّرت الممارسات الإسرائيلية سلباً على سير العملية التعليمية، وعلى تقديم الخدمات الصحية، فشهدت الحواجز موت العديد من المرضى وولادات النساء. كما أدت الى خلخلة المنظومة القيمية بين الناس، وزرع الخوف وعدم الشعور بالأمان، والإحساس بالظلم والقهر واليأس، وبروز ظاهرة العنف الاجتماعي. تسببت الممارسات الإسرائيلية أيضاً في زيادة نسب البطالة وارتفاع حدة الفقر وهجرة الشباب الى خارج فلسطين أو هجرتهم داخلياً إلى المدن الكبرى.  

اقتصادياً، قوضت إسرائيل الجهود الفلسطينية لبناء الاقتصاد الوطني وعرقلت تطويره، وعملت بمنهجية على تكريس تبعية الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصادها. في هذا السياق، منعت إسرائيل الفلسطينيين من الاستثمار الاقتصادي في مناطق ج التي تشكل 61% من الأراضي الفلسطينية وتقع تحت سيطرة إسرائيل أمنياً وإدارياً. بالتحديد استخدمت إسرائيل صلاحيتها المتعلقة بملكية الأراضي والبناء عليها وإنشاء البنى التحتية، لرفض إقامة المشاريع الفلسطينية التنموية فيها. كما حرمت الفلسطينيين من الاستفادة من ثرواتها الطبيعية والمائية وكنوزها الأثرية، وأهملت تطوير الخدمات لسكانها.

أحدثت إسرائيل تشوهات في بنية الاقتصاد شملت مصادرة الأراضي والمياه، وبناء المستوطنات والشوارع الالتفافية والحواجز المعيقة للتنقل، ومنع استخراج الموارد الطبيعية، وربط العمالة والتقانة والحرف الفلسطينية باقتصادها. أغرقت إسرائيل الأسواق الفلسطينية بالمنتوجات الإسرائيلية، واستمرت في فرض القيود المشددة على إنشاء المشاريع التنموية والتجارية، ورفض إعطاء التراخيص لإقامة المصانع ذات الطبيعة التنافسية مع المنتوجات الإسرائيلية. أضعفت هذه الإجراءات قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي، والخدمات السياحية، والتجارة.

بفعل الحصار والإغلاق المتكرر للمعبر التجاري في غزة، تستمر نسب البطالة والفقر في الارتفاع المترافق مع انخفاض الأمن الغذائي وانتشار الأمراض. وبسبب القيود المفروضة على دخول السلع تعاني غزة من عدم توفر الوقود ومواد البناء اللازمة لإعادة بناء المساكن والمصانع والبنية التحتية التي تكرر هدم إسرائيل لها أثناء اعتداءاتها المتوالية. باختصار، مازالت إسرائيل تعمل بانتظام ليس فقط على إفقاد قطاع غزة لمقومات بناء اقتصاده بل لتحرمه من كل مقومات العيش الكريم.

في منطقة الأغوار، وبغرض تهجير مواطنيها وسرقة كنوزها لصالح المستوطنات، يقوم الإسرائيليون بهدم بيوت المواطنين، وقطع مصادر الماء والكهرباء عنهم. وتعمل إسرائيل على عرقلة المشاريع التنموية، ومنع تنفيذ مشاريع تطوير البنية التحتية والخدمية والتوسعية.

تسيطر إسرائيل على الحدود وتفرض القيود المشددة على حركة التصدير والاستيراد الفلسطيني. وفي الأزمات المالية، تحجز إسرائيل حصة فلسطين من إيرادات الجمارك.

ما ورد أعلاه هو غيض من فيض للإجراءات الإسرائيلية التي مازالت تعرقل الجهود الفلسطينية نحو الاستدامة. وستلقي مقالاتي القادمة الضوء على تلك الجهود، وعلى إمكانيات توسيعها مع استعراض أهم المبادرات الفلسطينية والقضايا التي نحتاج إلى معالجتها.