أن يعلّق سعد الحريري نشاطه السياسي لبنانياً، وإن كان ذلك مؤقتاً أو نهائياً، يعني بين ما يعنيه أن لبنان اقترب أكثر فأكثر من دائرة الخطر. ليس القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء السابق سوى دليل على أن لبنان دخل مرحلة الفراغ الحقيقي؛ بعدما أصبح تحت حكم «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني. بكلام أوضح، صار لبنان تحت الاحتلال الإيراني لا أكثر. حسناً، ليتحمّل اللبنانيون، جميع اللبنانيين، مسؤولياتهم بعدما أصبح فيه «حزب الله» يقرّر من هو رئيس الجمهورية، وأصبح نائب مثل محمّد رعد لا يخجل من القول: «نحن أسياد البلد».
عمل سعد الحريري كلّ ما يستطيع من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه منذ اغتيال والده في الرابع عشر من شباط 2005. تحمّل أكثر بكثير مما يستطيع إنسان واحد تحمّله. جازف بتأييد ميشال عون، مرشّح «حزب الله» لرئاسة الجمهوريّة. دفع غالياً ثمن هذه المجازفة، وهي رهان على رجل لم يكن لديه من همّ آخر غير الوصول إلى قصر بعبدا بصرف النظر عن الثمن الذي عليه دفعه.
دفع لبنان كلّه ثمن هذه المجازفة وهذا الرهان على رجل قبل، مع صهره جبران باسيل، أن يكون مجرّد غطاء لـ»حزب الله» بعدما كان في الماضي ينصح اللبنانيين بأنّ يعرفوا ما هي نظرية «ولاية الفقيه». قبل حصوله على دعم «حزب الله»، قال ميشال عون في خطاب له مسجّل بالصوت والصورة: «في أخطار في البلد، الفُرس هاجمين (هاجمون)، ولاية الفقيه رح تسيطر على لبنان. مبارح حلفتكم وكل يوم أحلفكم. كلما سمعتم أحدهم يتكلم عن ولاية الفقيه، فليسأل شو معناها وشو هي». بعدما أصبح ميشال عون مرشّح «حزب الله» لرئاسة الجمهوريّة، صار الهجوم الفارسي على لبنان حلالاً وصارت ولاية الفقيه مجرّد نظرية من النظريات المنتشرة في هذا العالم. الواقع أنّه لم يصبح ميشال عون مرشّح «حزب الله» إلّا بعدما اختبره «حزب الله» طوال عشر سنوات، بين توقيع وثيقة مار مخايل في شباط 2006 وبين انتخابه رئيساً للجمهورية في الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل 2016.
كان الاختبار تغطية حرب صيف 2006، المدمّرة للبلد، مسيحياً وصولاً إلى عزل لبنان عربيّاً وتحويله إلى جرم يدور في الفلك الإيراني، مروراً بكلّ الاغتيالات التي نفذت والتي ذهب ضحيتها لبنانيون شرفاء حقّاً، مثل: بيار أمين الجميّل أو وسام الحسن أو محمّد شطح... وقبل ذلك جبران تويني.
ليس مطلوباً خروج سعد الحريري من السياسة بمقدار ما أنّ المطلوب استكمال غزوة بيروت والجبل في أيّار 2008 وتقطيع أوصال العاصمة، والقضاء على كلّ أمل بإعادة الحياة إليها تمهيداً لإعادة الحياة إلى لبنان.
يترك سعد الحريري فراغاً كبيراً، هو اللبناني بامتياز الذي ينتمي إلى ثقافة الحياة. لن يعاني السنّة وحدهم من غياب سعد الدين رفيق الحريري. سيعاني كلّ لبناني من ذلك. لا لشيء سوى لأنّ ما فعله سعد الحريري يتجاوز الشخص نفسه والطائفة السنّية التي ينتمي إليها. ما فعله سعد الحريري أنّه كشف الوضع اللبناني على حقيقته ليس إلّا. كشف بكلّ بساطة أنّ مفاعيل جريمة اغتيال رفيق الحريري ما زالت تتفاعل على أرض لبنان. لم يعد من فائدة من انتخابات تجري في الخامس عشر من أيّار المقبل. ما هو مطروح، من خلال قرار سعد الحريري، مصير لبنان لا أكثر في منطقة أقلّ ما يمكن أن يوصف الوضع فيها بأنّه يغلي.
قدّم سعد الحريري تنازلات كبيرة، وصفها بـ»التسويات التي أتت على حسابي»، وذلك تفادياً لأي مسّ بالسلم الأهلي. أشار تحديداً إلى غزوة بيروت وإلى اتفاق الدوحة واضطراره إلى الذهاب إلى دمشق، وإلى خسارته لثروته.
بصرف النظر عن الموقف الشخصي من سعد الحريري، وهو بالنسبة إلى معظم اللبنانيين سياسي من طينة أخرى مختلفة، وبصرف النظر عن الحاقدين على كلّ لبناني يرفض التبعية لإيران وغير إيران، يبقى أن قرار زعيم تيّار المستقبل يشير إلى أن المنطقة كلّها مقبلة على تطورات كبيرة.
امتلك سعد الحريري ما يكفي من الشجاعة للحديث صراحة عن «النفوذ الإيراني» في لبنان. نعم، لا يستطيع شخص مثله أن يفعل شيئاً في مواجهة هذا النفوذ الذي لا يأبه بالانتخابات ونتائجها ويصرّ على تحديد من هو رئيس الجمهوريّة في لبنان ومن هو رئيس الوزراء، وما إذا كان رئيس الوزراء قادراً على جمع أعضاء حكومته.
طوى انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسيّة صفحة من تاريخ لبنان. ما الذي يستطيع شخص وحده عمله فيما البلد لا يعاني من عزلة عربيّة فحسب، بل من تجاهل دولي أيضاً؟ في النهاية، يجد لبنان نفسه وحيداً في غياب مرجعيّة سياسيّة في الداخل. أصبح لبنان بلداً فقيراً بعدما صار يحكمه «حزب الله»، فيما لا دور للثنائي ميشال عون – جبران باسيل سوى توفير غطاء مسيحي لـ»حزب الله» وإيران التي تقف خلفه.
الأكيد أن سعد الحريري يرفض أن يكون شاهد زور على ذلك. يعرف تماماً أن الانتخابات لن تقدّم ولن تؤخر. استطاع السياديون اللبنانيون تكوين أكثرية نيابية في 2005 و2009. لم يقدّم ذلك ولم يؤخّر. بقي سلاح «حزب الله»، أي السلاح الإيراني صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلد. لم ينسحب سعد الحريري في مواجهة خاضها مع «حزب الله» ولم يخضها في الوقت ذاته. انسحب لأنّ العالم تخلّى عن لبنان بعدما تخلّى اللبنانيون عن بلدهم.
يبقى سؤال في غاية الأهمّية: هل تخدم التطورات التي تبدو المنطقة مقبلة عليها لبنان، أم أنّ البلد فقد كلّ مقومات وجوده في ضوء انهيار كلّ القطاعات التي ارتكز عليها الاقتصاد والمجتمع، بدءاً بانهيار النظام المصرفي والمصارف كلّها، وذلك منذ قيام «لبنان الكبير» في العام 1920؟