لا ينفك رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت، يكرر ومراراً إعلان موقفه الرافض للقاء الرئيس   محمود عباس، ورفض التعامل مع أي مسار سياسي يتعلق بالمفاوضات. هو يعتبر أن الدولة الفلسطينية ستكون دولة إرهاب، وأنه لن يسمح بقيامها، أما إضافته الجديدة في آخر تصريحاته بهذا الخصوص، فإنه يؤكد رفضه التعامل أو الالتزام بمسار أوسلو، وكأن الحكومات التي سبقته قد قصّرت في تدمير تلك المسيرة والمسار، ولكن في الغالب دون الحاجة لإعلان ذلك على النحو الفج والوقح الذي عبر عنه بينيت.
في واقع الأمر، فإن ما تبقى من وجوده في مقعد رئاسة الحكومة، لا يتيح أي فرصة للعودة إلى المسار السياسي، أو إجراء أي مفاوضات سياسية مع القيادة الفلسطينية. ليس في تصريحات بينيت أي بطولة، فلا الوضع الدولي أو الإقليمي، جاهز لوضعه وحكومته أمام هذا الاختبار خلال الفترة المتبقية له على رأس الحكومة، وربما خلال ولاية يائير لابيد هذا إذا قيّض للابيد، أن يتسلم موقع رئيس الحكومة بعد بينيت.
إذا كان أمر فتح المسار السياسي مرهونا حتى الآن بتحرك إدارة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، فإن جدول أعمال واهتمامات هذه الإدارة، طافحة بملفات أخرى تحظى بأولوية على ملف العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. وبناءً على ذلك، فإن الموضوع الإسرائيلي الفلسطيني قد لا يجد سبيله إلى التفعيل بالنسبة لإدارة بايدن خلال السنوات المتبقية من عمر هذه الإدارة. لدى هذه الإدارة انشغالات تتعلق بالأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة، وعلى الصعيد الخارجي ثمة ثلاثة ملفات تحظى بأولوية الاهتمام، وتنطوي على مخاطر وهي ملف أزمة روسيا أوكرانيا، وملف الاتفاق الدولي مع إيران، فضلاً عن ملف الصين، الذي لا يتوقف على المنافسة، وإنما قد يؤدي إلى حرب في بحر الصين. هذا هو المعلوم والملموس حتى الآن، ومن غير المستبعد أن تنفجر في وجه الإدارة الأميركية صراعات وحروب أخرى، في غير منطقة من هذا العالم المضطرب. يزيد على ذلك، أن ملف الصراع الصهيوني الفلسطيني لا ينطوي على خطورة ضاغطة على الإدارة الأميركية، بما قد يجبرها على وضعه على سُلّم الأولويات.
يعرف بينيت ذلك، ويعرف أن لقاءات الرئيس الفلسطيني مع وزير الدفاع بيني غانتس، والوزير حسين الشيخ مع لابيد، لا تنطوي على أبعاد سياسية، ولا تهدد تماسك الحكومة، ولكن لماذا استمرار تأكيد بينيت على هذه المواقف التي يعرفها الفلسطينيون حق المعرفة، وتعرفها أيضاً الدوائر الغربية والإقليمية حق المعرفة؟
الأرجح أن رسالة بينيت موجهة للمجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً المجتمع الاستيطاني، في محاولة لتقديم نفسه، باعتباره الأجدر من نتنياهو على حماية مصالح الإسرائيليين، هذا بالإضافة إلى أنها محاولة لتوسيع دائرة مؤيديه، حتى يضمن لحزبه البقاء، وربما بعدد أكبر من المقاعد في أي انتخابات عامة مقبلة.
وقد تؤسس مثل هذه المواقف المعلنة، للتمرد على الائتلاف الحكومي، حين يأتي استحقاق مغادرته موقع رئيس الحكومة لصالح لابيد بحسب الاتفاق الذي وقعت عليه أطراف التحالف.
بينيت لم يتوقف أيضاً عن شيطنة ما يسمى اليسار والوسط الذي ينتمي إليه لابيد، ولذلك فإنه، قد يسمح بفرط التحالف ومنع لابيد من الوصول الى مقعد رئيس الحكومة، حتى لو أدى ذلك إلى الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
معلوم أن القاسم المشترك الذي سمح بإقامة هذا التحالف هو إبعاد نتنياهو عن رئاسة الحكومة. فماذا إذا تم تغييب نتنياهو سواء عبر المسار القضائي، أو من خلال انتخاب زعيم جديد لليكود؟
ثمة محاولات من قبل نتنياهو للتوصل إلى اتفاق تسوية مع النيابة العامة، مهما كانت نتيجة تلك التسوية إذا تحققت بعد رحيل المستشار القضائي عن موقعه، فإن نتنياهو لن يكون قادرا على مواصلة زعامة الليكود. هذه الوضعية، مغرية بالنسبة لشخصية متطرفة، وتبحث عن مصالحها الخاصة، مثل بينيت، خصوصاً وأن الليكود بعد نتنياهو قد يسعى لإقامة حكومة، ستكون قوية، إذ يمكن استمالة بينيت، وساعر، وآخرين من اليمين المتطرف في حكومة الائتلاف القائم حالياً وبما يؤدي إلى التخلص مما يسمى اليسار والوسط والعودة إلى حكومة يمين متطرف خالصة.
لا شيء على الإطلاق، يمكن أن يجعل أطراف اليمين المتطرف في حكومة بينيت من البقاء في حكومة هشة كالقائمة الآن، إذا توفرت الفرصة والأرجح أن تتوفر للعودة إلى أحضان الليكود في حال التخلص بهذه الطريقة أو تلك من نتنياهو.
حتى القائمة الموحدة التي يترأسها منصور عباس، يمكن أن تذهب إلى هذه الوجهة، طالما أن رؤيتها البراغماتية، تدفعها نحو المشاركة في أي ائتلاف حكومي، وهي أصلاً لم تكن تمانع من التحالف مع نتنياهو والليكود، لو انه كان بالإمكان تشكيل حكومة.
في واقع الحال فإن تشكيل الحكومة بالائتلافات القائمة فيها، يعد أمراً استثنائياً جداً في الحياة السياسية، ما كان لها أن تجد طريقها إلى النور، لولا الأزمة التي تضرب بعمق النظام السياسي في إسرائيل كما تجلت بكل أبعادها خلال السنوات القليلة المنصرمة.
بعد نتنياهو، تخلو الساحة السياسية الاسرائيلية، من الزعامة التاريخية، ذات الأفق الاستراتيجي، وكل ما هنالك عدد من الجنرالات محدودي الخبرة، والباحثين عن مصالحهم الشخصية الخاصة، ما يعني غياب المخلص، واستمرار تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية.
إذا كان هذا هو السياق المتوقع للنظام السياسي الإسرائيلي، خصوصاً في ضوء تفاقم التناقضات بين المجتمع الداخلي والمجتمع الاستيطاني وتدهور إسرائيل نحو العنصرية البغيضة، فإن الأمر يبقى رهناً بما ينبغي على الفلسطينيين أن يقوموا به، لإعادة بناء نظامهم السياسي ووحدتهم وتصعيد المواجهة.