أظن، وليس كل الظن إثما، أننا لو كنا شعبا طبيعيا لكنا، الآن، نحتفل بنتائج الانتخابات السادسة التي يجريها الفلسطينيون بعد أن حكموا أنفسهم، والخامسة افتراضيا طبعا بعد آخر انتخابات أجريت في كانون الثاني قبل ستة عشر عاماً، ولإنعاش الذاكرة التي علاها غبار الانقسام والاتهامات البدائية التي خلت من صراعات الفرسان والتي غطت فضاءنا العام على امتداد أكثر من عقد ونصف العقد، علينا التذكير بالجولات الافتراضية وفقاً للقانون.
افتراضياً وبعيداً عن الواقع كان يجب أن تجري الانتخابات الثالثة للمجلس التشريعي العام 2010، أما الجولة الرابعة فكانت ستجري للمجلس التشريعي وللرئاسة التي تكون قد أنهت ولايتين، بينما الجولة الخامسة كان يجب أن تجري العام 2018، أما قبل الأسبوع الماضي كان يفترض أن تكون الجولة السادسة للمجلس التشريعي ولرئيس جديد هو الرئيس الرابع الذي يستعد لتسلم موقعه من الرئيس الذي انتخب العام 2014 لينشغل الفلسطينيون بكل الفرح بالتحالفات الجديدة التي سيشكلون وفقها أحدث حكوماتهم.
وأد الانتخابات لا يعني فقط صراعا بين أحزاب وقوى سياسية تتناحر فتلك مجرد أعراض خارجية للأزمة، ولو كان الأمر كذلك فسينتهي في اللحظة التي تجمعهم مائدة واحدة وقد جمعتهم كل موائد العواصم السياسية منها وحتى موائد الولائم، لكن الأمر أبعد من ذلك حيث يتعلق بوعي المشتغلين في الحقل السياسي لمفهوم السياسة والحكم وثقافة الانتخابات كنتاج أو كتتويج للشكل النهائي أو كعملية إدارية لا تخضع لوجهات نظر بل يفترض أنها تعني ببساطة انتهاء عقد العمل للفئة التي تم انتخابها فتعرض نفسها لتجديد العقد، هكذا الأمر وأي فهم دون ذلك يعني أن ما يجري ممارسته يمكن تسميته أي شيء إلا أن يكون عملاً سياسياً، حكم القبائل أو ممالك العهد القديم أو أي شيء.
الانتخابات هي تتويج للعمل السياسي وليس أساسه، وعلينا أن نعترف أن المنطقة العربية لم تنضج بعد لممارسة السياسة وإلا لكان لها موقع بين الأمم، والسياسة هي ابنة الحداثة والحداثة هي ابنة المدينة والمدينة هي ابنة الصناعة، وما زال العالم العربي متخلفاً صناعياً ونحن، الفلسطينيين، الورثة الأسوأ كما دلت التجربة لهذا الواقع العربي الذي لم ينتج بعد مفاهيمه الحداثية المدينية وما زال يمارس السياسة بعقل القبيلة وما زال وعيه بدائياً لمفهوم الحكم والسلطة وعلاقته بالشعب.
الانتخابات هي آلية نتجت في أوروبا بعد الثورة الصناعية حيث انتشار المصانع والعمال والتجار وتشكيل النقابات والجمعيات ومصالح المنتمين لها وتشعب الصراعات الاقتصادية والسياسية، ما كان يتطلب إيجاد آلية تضمن حماية تلك المصالح وضمان ضبط الصراعات في إطار مؤسسة واحدة اسمها البرلمان يتم انتخابه بديلاً عن العنف والسلاح، منطقتنا العربية لا زالت تحتكم للقوة والسلاح أما قناعتها بالانتخابات فهي مجرد شعار.
الانتخابات تتطلب قوة سياسية وصل مستوى وعيها بأن الشعب هو مصدر السلطة وصاحب السيادة وصاحب الحكم والأرض والولاية والصلاحيات، وصاحب القرار بالتعيين والفصل.
الانتخابات تتطلب أن يدرك المشتغلون في حقل السياسة أنهم خدام وموظفون بعقود مؤقتة وليسوا دائمين وليسوا حكاما وهم مسؤولون بالمفهوم الحقيقي للمسؤولية responsibility كما فهمها من اخترعوا علم السياسة بمفهومه الحديث وهي كلمة مشتقة من الأصل اللغوي من كلمتين «response» وتعني الاستجابة و»ability» وتعني القدرة أي القدرة على الاستجابة لخدمة الناس. بينما المسؤولية في العالم العربي تعني إعطاء أوامر فما زال مفهوم الراعي والرعية جزءا من ثقافتنا السياسية والرعية تعني القطيع.
الانتخابات تتطلب فهماً للصندوق باعتباره الحكم الوحيد لأي صراعات بين القوى السياسية وأصحاب المصالح المتعارضة، وإن جرى اختلاف حول نتائجه فإن هناك محكمة تقرر ولكننا ما زلنا نحتكم للسلاح. وتكفي إطلالة واحدة على ما حصل في الإقليم وشكل الصراع على السلطة الذي دمر العواصم لندرك مدى علاقة العقل العربي بالصندوق وفهمه لأدوات الوصول للحكم.
الانتخابات تتطلب وعياً لدى الحزب السياسي بأنه جهة تعرض مجموعة موظفين يقدمون أوراقهم في مناقصة عامة اسمها الانتخابات، وقد تقبل أوراقه وقد يتم رفضها من قبل المشغل وهو الشعب وإذا جرى اختياره للوظيفة عليه الالتزام بكل ما يفرضه المشغل.
ما هو قائم من قوى سياسية جزء منها في الحكم وأخرى في المعارضة يتمنى ألا تجري الانتخابات ليبقى للأبد، وقوى تطالب بانتخابات. والذين يطالبون بها هي القوى الضعيفة التي لا تمتلك سوى الصندوق وسيلة لوصولها للحكم، ولو امتلكت أو كان لديها من القوة ما يمكنها من الاستيلاء على السلطة لكان الصندوق آخر اهتماماتها «كما حصل في غزة» وإن نجحت ترتد إلى أصولها الثقافية وتصبح قوة معادية للانتخابات وللصندوق هكذا هو الأمر وهذا الاستنتاج هو ابن التجربة المريرة ويعكس بدقة مستوى الوعي العربي وفهمه للانتخابات.
إن الصراع بين القوى السياسية هو صراع طبيعي والتنافس فيها هو سمة العمل السياسي. ومن الطبيعي أن تتولد أجواء الكراهية والتآمر ولكن ما يضبط هذه المسألة هو الثقافة والوعي لأن مفهوم الانتخابات لدى دول تطورت لديها العملية السياسية تطورا طبيعيا كنتاج لحالتها الاقتصادية والاجتماعية يختلف عن مفهومه لدى دول نقلت التجربة وما زالت حواضنها الاجتماعية هي حواضن قبلية لذا انتجت عملية سياسية تنافسية مشوهة كان لا بد أن ترتد لأصولها الأقرب لوعيها لحسم المنافسات فكان السيف والسلاح. وما حصل في الإقليم كان النموذج لممارسة طبيعية لأمة ما زالت لم تفهم أصول السياسة بعد فدمرت نفسها ومدنها وللأسف مارس الفلسطيني حسم خياره السياسي بالسلاح.
لا يدهشني صراع «فتح» و»حماس» على السلطة كطبقة سياسية فهذا طبيعي، بل إن المخيف هو الحاضنة الاجتماعية التي تدافع أو تهاجم بكل شراسة عن هذا القدر من الأداء البدائي في العمل السياسي. وهنا الأزمة التي تقول، إن الحالة القبلية تتكامل تماما وتجعلنا أقل تفاؤلاً من أي جولة حوار فالمسألة أكثر تعقيدا. ولا عزاء بالانتخابات.