قبل البداية

"..إلهي لقد تم بيع التذاكر للآخرة ولم أجد المال والوقت والعذر كي أقتني تذكرة
فمزق تذاكرهم يا إلهي ليسعد قلبي؛ ألم تعد الناس بالمغفرة؟!"
لقد كانت تلك كلمات محمد الصغير من قصيدة  إلهي، والتي كأنها نُظمت لتصف حال غزة تماماً، فهناك في غزة من قام بحجز تذاكر الفضيلة كلها ووزعها على أبناء الحركة الحاكمة وبناتها، أما باقي الشعب في قطاع غزة فهو مجرد حمل ثقيل ملقاً على عاتق حكومة الحركة الإسلامية؛ التي لا تدخر جهداً في إذلال الشعب وإهانته مطالبةً إياه بشكرها وتقدسيها كونها تسمح له بالعيش على أرض غزة، أو كما يفضل النظام الحاكم تسميتها (أرض العزة، وشرف الأمة).
إذن، من ذلك الخائن والجاسوس، والكافر أيضاً، الذي يحاول أن يقف في وجه حكومة المقاومة والرباط، من هذا الذي يقول لا في وجه الحركة المجاهدة؟! وكيف يجرؤ على ذلك، لنصلبه إذن، لنعذبه، لنقتله ونمثل بجثته دون أن ندعه يكمل حديثه، ليتعلم أهل غزة الدرس، لم ينتهي زمن الأصنام المقدسة بعد، فما زال لدينا حماس، فويلٍ لمن لا يسجد لها، فويل لمن كان من الكافرين.

معادلة الجوع مقابل الكرامة
إن أبرز العبارات التي كنا نسمعها من أبناء الحركة الإسلامية الحاكمة في غزة، إن شعرنا بالتأفف من ظروف المعيشة وحالة انعدام الأفق والحصار المسيس، هي: "إن هذه المعاناة هي ضريبة الكرامة التي تتمتعون بها في قطاع غزة، عليكم أن تشكروا المقاومة بدلاً من تحميلها ما لا طاقة لها به". وكنا نصمت، فالأمر كان في بداياته، وهنا أتحدث عن ما بعد العدوان الإسرائيلي الأول على قطاع غزة في العام 2008.
كنا نصمت، لأن الصورة آنذاك لم تكن مكتملة بعد، وربما كان لدينا القليل من الثقة بأن هذه المقاومة التابعة لحركة حماس هي بالفعل كيان مقاوم ولديها رؤية راسخة وواضحة تسير جنباً إلى جنب مع الحلم الفلسطيني الأكبر، وهو الدولة الفلسطينية، أما ما بدأنا في اكتشافه مع تقادم الزمن، أن هناك خللاً ما، أن الأمور لا تسير بشكل طبيعي، وأن هناك ما يحدث في الخفاء، وبدأنا حقاً نشم رائحة مكيدة!
إن الشعب الفلسطيني بطبعه، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحريته وحقوقه، يكون لديه طاقة احتمال وصبر لا يتخيلها أي إنسان آخر يعيش على هذه الأرض، فالفلسطيني المعتاد على الشقاء والعناء منذ العام 1948 لن تتعبه سنة شقاء جديدة مقابل أن يحصل على حياة إنسانية لائقة، وهو نفسه الشعب الفلسطيني يعرف جيداً من يقف بجانبه، ومن يدير الألعاب العبثية من حوله، ذلك لم تطل المدة حتى اكتشف الفلسطيني في غزة أنه بالفعل قد تم اختطاف قطاع غزة في العام 2007م، من أجل تمرير كل المعادلات والسيناريوهات التي حدثت بالفعل كفيلم سينمائي تراجيدي كان بطل الشاشة الأول فيه هو حركة المقاومة الإسلامية حماس، الحكومة التي فرضت نفسها بالقوة على قطاع غزة، لقد كان الأمر اختطافاً بمعناه الحقيقي، اختطاف لمدينة، وشعبها، وشوارعها، وسماءها، وبحرها، ونهارها، ومساءها!
وإن انتفض أهل هذه المدينة مطالبين بحرية مدينتهم المختطفة، يجلدهم الحاكم بأمر المقاومة، ومشيئة الله أن تظل غزة ثكنة عسكرية مغلقة غير مقدر لها أن تتنفس الهواء المدني أبداً، والعبارة الشهيرة الأخرى التي لا تزال تستخدم كسوط على رقبة كل ما يعترض هي: (هل تريدون أن تصبح غزة كالضفة الغربية؟ هل تريد أن يدخل الجندي الاسرائيلي إلى بيتك كما يحدث في الضفة؟).
إنه لمن غير المنطقي أن تعاير أحدهم بحسنة أنت لم تفعلها، بل شاءت الظروف أن تنسب تلك الحسنة لك، فإن خروج الاحتلال الاسرائيلي من قطاع غزة في العام 2003 كان مجرد بداية لفصل قطاع غزة عن باقي أجزاء فلسطين، وبداية للفيلم التراجيدي الذي أشرت له مسبقاً، ويحزننا حقاً بهذا الصدد أن ندرك أن المقاومة في غزة بصورتها الكلية كانت مخططة جيداً، وأن هناك خطوط حمراء محددة لا يمكن للمقاومة تجاوزها مهما حدث، وإن هذا ليس بياناً سرياً أو تسريباً خطيراً، إن أصغر طفل في قطاع غزة يعرف هذا الكلام جيداً.
إن الشعب الفلسطيني كله شعب مناضل ومقاوم وصاحب حق، ولا يمكن لأي جهة أو فصيل أو حزب أن يتقدم الصورة لوحده محتكراً المقاومة لنفسه، ومستفيداً منها إلى أبعد حد مع تهميش وإذلال الشعب الفلسطيني، أما السؤال الذي يجب أن يستمر في طرق أدمغتنا كل يوم هو: ما جدوى المقاومة إن لم يكن هدفها الأول حفظ كرامة الإنسان الفلسطيني؟


غزة تُفتش عن وجهها في ثكنة عسكرية مغلقة
ربما هو واحد من أكثر التساؤلات التي تخطر مراراً على ذهن الإنسان بصورة عامة، ما هي قيمة الحرية؟ لماذا يريد الإنسان أن يكون حراً؟ لماذا نضحي من أجل الدولة الفلسطينية؟
وببساطة البساطة نفسها تأتِ الإجابة خفيفة لامعة، إن كل ما يملكه الإنسان في حياته هو شعوره بالكرامة والقيمة، بل إن الشيء الوحيد الذي يصنع من الإنسان إنساناً هو كرامته وحريته، وشعوره بأنه حقاً ذو قيمة في هذا العالم لمحددات خاصة به ككيان حر وقادر على اتخاذ قرارات مرضية.
إذن، ما قيمة أن يفني الإنسان حياته كاملةً تحت نظام حكم يرفع راية المقاومة دون أن يحقق أي مكاسب حقيقية تشعرنا بقيمة وجودنا، وبحريتنا، ما قيمة الانتصار إن متنا في سبيله ولم نشهد نتائجه!!
إن هذه الأسئلة والهواجس كلها دفعت غزة لأن تنزع الغمامة عن فمها وتصرخ، أين أنا؟ أين وجهي القديم؟ أين شعبي الفلسطيني الخالص؟ لتجد غزة نفسها بعد ذلك حبيسة ثكنة عسكرية بعيدة كل البعد عن أي شكل من أشكال الحياة المدنية، وفي أحيان أخرى، تجد نفسها في مسجد ضخم وكأن الخلافة بعثت من جديد في غزة.
إن الحياة في قطاع غزة هذه الأيام لأشبه بالكابوس المرعب، وأترك لك أن تتخيل، أكثر من نصف الشعب يعيش تحت مستوى خط الفقر، بمعدلات بطالة تجاوزت الـ70% بين صفوف الشباب والشابات، وفقاً لإحصائيات حديثة بثتها قناة الجزيرة، ومعدلات أمراض وعلل نفسية تكاد تكون ظاهرة عامة في شوارع القطاع، أضف إلى ذلك حالة اليأس العامة التي تحيط بالقطاع حتى أصبح العمل في اسرائيل بمثابة حلم غالبية السكان، ومع بنى تحتية مدمرة تماماً، وظروف حياتية قاهرة، يستمر النظام الحاكم بمطالبة الشعب بالصمود والصمت وعدم إزعاج المقاومة التي تعمل منذ أكثر من 15 عاماً من أجل تحقيق الكرامة!! دون أن يلمس المواطن في غزة أي تحسن في حياته اليومية، بل أن الحياة تستمر في الذهاب نحو الأسوء.
هذه الحالة من اللاجدوى والتشتت أسفرت عن شعب كامل غير مستقر نفسياً أو عاطفياً أو اجتماعياً، فكما أشرنا أن ما يصنع من الإنسان إنساناً هو إحساسه بالقيمة التي يستمدها من كونه إنسان لديه حياة خاصة، لديه ما يحب، وما يكره، لديه ميوله ورغباته، لديه أحلامه الكبيرة، وغاياته المستقبلية، فأين نحن من كل هذا كشعب غزة؟
وإن الأمر ليس كذلك فقط، بل في الأونة الأخيرة، أصبح النظام الحاكم أيضاً في حيرة من أمره، فهو من جهة أمام شعب كامل اكتشف زيفه وكذبه، ومن جهة أخرى أمام دولة استعمار عنصري يستمر في التغول دون أي يبقي أو يذر، الأمر الذي دفع قيادات حركة حماس أو النظام الحاكم إلى مغادرة قطاع غزة! فقيادة الحركة الإسلامية التي تكرشت وعبئت حساباتها البنكية بمليارات الدولارات في البنوك الأوروبية لم يبقَ عندها ما تفعله في هذه البقعة الخربة من الأرض والتي تسمى غزة.

حماس في غزة غارقة في الوحل وترفض الاستسلام!
كثيراً ما نسمع عن مفهوم حفظ ماء الوجه، وهو ما يفعله المهزوم عندما يدرك أن لا طائل من المحاولة فينسحب بهدوء حافظاً ماء وجهه، ولكن يبدو أن حركة حماس لم تسمع بهذا المفهوم من قبل، فهي ما زالت تكذب متذرعةً بالمقاومة، ومعادلة الجوع مقابل الكرامة، بينما هي تعلم أن حتى أبناءها أنفسهم لا يصدقونها، ولكنها تستمر في ما اعتادت فعله، وللحق، يجب على حماس أن تشعر بالخوف بعد اختطاف قطاع غزة لما يزيد عن 15 سنة، بعد تعريض غزة لأسوء التجارب اللإنسانية، فعليها الخوف حتميات الزمن، أما الشعب الفلسطيني فهو شعب طيب، كل ما يطلبه من حركة حماس في غزة هو أن تتركه يعالج ما أفسدته، وبأكثر الطرق ديموقراطية وشفافية، فكما أسلفت الشعب الفلسطيني طيب، لا ينتزع الحكم بالدم والسلاح كما حدث في العام 2007 عندما تم اختطاف قطاع غزة عنوة وأمام الجميع، بل يحتكم إلى رأي الشارع، ورأي الأغلبية وحقهم في اختيار من يصلح لإدارة شؤونهم وحياتهم.
إن ما حدث خلال الـ15 عاماً الماضية في قطاع غزة كفيل بإثبات عدم جدارة الأيدولوجيا الإسلام-سياسية، في إدارة الحياة والشؤون الاجتماعية المدنية والسياسية الفلسطينية، وإنه لمطلب عادل وسامٍ أن يطالب الفلسطينيون من خلال #خطفوا_غزة بتداول الحكومات وتبدلها، فمن حق الشعب الفلسطيني أن يعيش وفقاً لما يرتئيه، لا وفقاً لما يفرض عليه من خلال حكومات متعددة التوجهات، وهذه من البديهيات التي لا خلاف فيها، وإن الكلمة الأخيرة التي اتفق عليها الشعب في غزة أن عدم إجراء انتخابات لا يعني بالضرورة القبول بالوضع الراهن كما هو مهما كلف الأمر، فالذي يضيع منا في ظل وجود حكومة حماس ليس شيئاً يمكن تعويضه، ما يضيع هو عمرنا دون فائدة ترجى من ضياعه سوى المزيد من تكرش القيادات الهاربة من قطاع غزة.