دهشة الصغار والكبار.. معقول فيل بحجمه الكبير في المدينة!
فيل، بخط برتقالي كبير، تحتها في المدينة؛ لكن العين تتوزع ما بين الكلمة والرسم لفيل في البحر، فيما تظهر على الشاطئ المقابل مدينة.
في المدينة؟ أم في البحر؟ أم في كليهما!
رحلة أخرى في الفضاء العام وفي النفس، كما اعتادت الكاتبة هدى الشوا استخدام الرحلات للاستكشاف الخارجي والداخلي، وهو المقصود الأول، من خلال رحلة وجودية، تتجاوز الحيوان نحو الإنسان، دون نفيه أو التقليل من حقوقه ككائن حي.
في النص، هدف إنساني برسالة سامية، تتعلق بالبعد الأساسي للكائنات، ومنها الإنسان، وهو المتعلق بالحيّز العام لها؛ لما يشكله الفضاء ليس فقط كبعد من أبعاد الكائنات والبشر، بل كجزء عضوي لا ينفصل، بل كأن الكائن الحي والإنسان، لا يتحقق فيزيقيا ولا معنويا، إلا بما كان عليه من طبيعة واسعة يتحرك فيها بحرية، دون احتكاك يقود للمشاكل والملل.
فيل في المدينة، مع صورة له في بحر الخليج، على غلاف القصة، ليس هناك أكثر تشويقا للطفل؛ فمكان الفيل وفقاً لخبرة الأطفال هو حديقة الحيوانات؛ إذاً لماذا هو في البحر وفي المدينة؟ سنعرف فيما بعد أنها مدينة الكويت، من خلال برجي الإذاعة والتلفزيون.
سيفتح الطفل ليقرأ ويرى، بناء على هذا التشويق الذي ظهر عتده بمجرد ملامسة الغلاف، حيث سيجد نفسه طارحا عدة أسئلة.
كيف صار ذلك؟ وهل يمكن أن يقتحم الفيل بحراً ما للسباحة واللعب؟
تبدأ الإجابات، منذ الصفحة الأولى، حيث "سئم الفيل مالك من مساحة حظيرته الصغيرة، وملّ من أصوات زوجته دلال الرتيبة، وكان يحلم بحياة جديدة خارج أسوار الحديقة".
وهنا، ما إن يخرج من الحديقة، حتى يبدأ التشويق، ترى ماذا سيفعل؟ والى أين سيذهب؟
يواصل الفيل مالك سيره بالرغم من السيارات والناس، حيث يبدو أن غير آبه فعلا بهم. ولأن المشهد غير اعتيادي أبداً، فإن الكبار لا يرونه، وفقط الصغار هم من رأى؛ فحين يخبر طفل أمه عما يرى، يكون رد فعلها بأن طفلها ما زال بين النوم واليقظة، ورد الفعل نفسه يظهر عند الشرطي حين يخبره شاب بذلك، فيستنكر المعلومة، معتبراً الاتصال مضيعة لوقت الشرطة. وفقط هم الصيادون في البحر هم من توقفوا "في زوارقهم عن رمي شباكهم، وأخذوا ينظرون بدهشة".
لا يهتم مالك، الفيل بالمدينة، إلا بما يثيره من مناظر الحيوانات والطيور على اللوحات الدعائية، "وصور لخضار وفواكه وحشائش طويلة تزين الشاحنات"، لأن "كل هذا أثار في نفسه الشجن. كل هذا ذكره بأدغال الوطن"، فلا حداثة المدينة من سيارات جديدة ولا الشوارع ولا المباني العالية، حرك فيه شيئاً؛ فقط الطبيعة من حدائق وحبات تمر النخيل التي التقطها بخرطومه، وشاطئ البحر حيث الرمال الناعمة والماء، هو ما أثار شهيته، حيث سعد بالتمدد على الرمل والتراب، وغمر نفسه بالماء، لاعباً بخرطومه بالماء، وصولاً إلى ممارسة اللعب في حديقة الملاهي "يدور مع الأحصنة! يركب الدولاب الكبير، يقود عربة الأخطبوط".
لا يعلم بخروجه أحد، إلا لما حان إطعامها حيث فطن الحراس لهروبه؛ فلم يسأل عنه سوى شريكته دلال، الفيلة الحزينة على غيابه، والتي رفضت "أكل الحشائش والفاكهة والخضار احتجاجا وغما على خروج زوجها مالك ذات النهار". وحين يعيده الحراس، فإن دلال فقط هي من استقبلته "بأصوات همهمات نهيم الفيلة، فرحة بعودة رفيق دربها".
عوداً على بدء، "أدرك مسؤولو الحديقة أنه لا بد من توسعة مساحة الحظيرة، وملئها بالألعاب والأشجار العالية الخضراء، وإيجاد مساحات من الرمال الناعمة، وبركة من المياه العذبة، لاستحمام الفيلة ولعبها وتمرغها، حتى يصبح الفيل مالك فيلاً مرحاً سعيداً، ولا يشعر بضيق وملل في حديقة الحيوان بعد اليوم". وبالطبع مع دلال كما تظهر الرسمة!
لا شك أن مضمون القصة هو مضمون يتعلق بحقوق الحيوانات ظاهرياً، وبحقوق الأطفال أيضاً وهي حق التزويد بالطعام والشراب والملابس والسكن، وحق الأمان، وحق التعليم، حق الترفيه، وهو المحور الرابع من حقوق الطفل. أي وجود فضاء كاف وصحي آمن وترفيهي، وما رسمة الخرطوم الملتف على إشارة المرور، التي تظهر التوقف عبر ضوئها الأحمر، إلا دلالة بضرورة تلبية الحاجات، تجنباً للاحتجاجات، وتجنباً لتخريب المنشآت العامة والسطو عليها، كما فعل مالك مع الأشجار.
فلا بدّ أن يحسن الكبار، وأهل الحكم الذي أشير لهم بالشرطي، لتحسس حاجات الصغار والكبار والحيوانات أيضا، وعدم اللامبالاة. وفي الوقت نفسه، سيظل هناك من يرى ويتأمل مثل الصيادين في البحر الذين توقفوا "في زوارقهم عن رمي شباكهم، وأخذوا ينظرون بدهشة".
من جمال النص هو الصدق، وعدم التكلف، خاصة "حين يعيده الحراس، فإن دلال فقط هي من استقبلته "بأصوات همهمات نهيم الفيلة، فرحة بعودة رفيق دربها".
في النص تشويق عال من البداية للنهاية، من خلال لغة بسيطة، غير معقدة، بحيث كانت بلاغتها في وصف الحالة وصولاً لتحقق المضمون.
أما الرسومات، فقد انسجم الفنان لويس شابمان بريطاني الجنسية، مع فضاء المدينة كمسرح لحركة الفيل، حيث عمد بذكاء إلى اختيار الكولاج أسلوباً، من خلال رسم الفيل في فضاءات المدينة من خلال صور ستيفن همب، لحديقة الحيوان، والشوارع المكتظة بالسيارات، ولأحد الجسور، والشاطئ، ومدينة الملاهي، حيث كان ذلك مقنعاً، خلق مصداقية لمكان الأحداث.
مرة أخرى، سنجد أنفسنا باحثين/ات عن تنشئة الطفل العربي، والفلسطيني، لغوياً وفكرياً ونفسياً، عبر ادب الطفل وفنون الطفل، وتجليات ذلك فيما يمكن تضمينه تربوياً، حيث تقع هناك مسؤولية كبيرة على كل من يتوجه للطفل بكلام وصور ورسومات وأغان وأفلام ومسرحيات.
في "فيل في المدينة" مثال جذاب للطفل كي يقبل على القصة أولا، ثم ليفكر هو ويشعر، باتجاهات قيمية غير قادمة من عالم الوعظ والإرشاد، بل من داخل نفسه، وبذا نضمن الثبات والتطور الإنساني.
-------------
صدرت "فيل في المدينة" عن دار نشر نوفابلس للنشر والتوزيع.