كالعادة في عالمنا، تزداد متابعة الشخص بعد موته، ويزداد الإهتمام والجدل وتتضاعف الشهرة وربما يكسب ورثته أكثر من بيع منتوجه "الفكري" أضعاف ما إستفادوا في حياته، وهذه طبيعة الإنسان، نحب الجدل ونهوى لعبة الاختلاف.. وأياً كان، فالرجل بذل جهداً خارقاً على مدى عشرات السنين في إثبات وجهة نظره، التي تحولت إلى "معتقد " ومدرسة، و أسماها البعض صاغراً بالفكر و الفلسفة.. و ما علينا من كل هذا .. 

ولا ينكر أحد ، و لا حتى يستطيع و إن حرص أن ينكر أن القمني من المثقفين العالمين القارئين الحافظين لتاريخ و ثقافات و فلسفات ، و مؤلفاته خير دليل على ذلك ..

الرجل ببساطة لا يقبل بقياساته العلمية المادية بالرويات التاريخية ، حتى تلك التي يعتبرها الناس مقدسة ، مثل التوراة و الأناجيل و المصحف ، ناهيك عن الحواشي من تلمود و أحاديث و غيرها .. و ينسب الكثير ، بل الكثير جداً من الروايات " المقدسة " و يؤصلها بأنها إقتباسات كلية أو جزئية من هرطقات و شعوذات و أساطير وحكايات الأولين شرقاً و غرباً .. و تخلص من قراءة أدبياته أن فكرة الإله أساساً هي فكرة بشرية و حاجة إنسانية و أن الأنبياء و الرسل بعضهم " نصاب ، أو ساعٍ لحكم و سلطان ، أو يداري على " خطيئة بإدعاء القدسية ، و أن ( بالذات ) الإسلام دين عنف و قتل و إحتلال وقهر  و يتخصص في إثبات وجهات نظره بالشريعة و إختلاف أحكامها و المذاهب و كمتابع أو قارئ تشعر من كلامه أن " مجلس قيادة الثورة " يعني النبي و الصحابة كانوا " دافنينه سوا " و أنهم كانوا يمررون لبعضهم البعض الأخطاء و لا يطبقون على أنفسهم الأحكام ( مثل ما حصل مع خالد بن الوليد و إبن عمر بن الخطاب إلخ ) .. 

* الغريب العجيب أن الرجل الذي > يرفض بكل قوة < أن يؤجر عقله ، ويصر على إحترام مخه و يرى الأشياء كما هي بواقعية و بحثية علمية دقيقة ، و يعتمد على التدقيق و التمحيص ، تراه يصر  ( إلحاحاً ) على أن يعتمد بنسبة مائة في المائة على ( روايات ) في تقرير الحالة ، و من ثم ( الحكم ) عليها ولا يعطيك مجالاً حتى للرد بمتشابهات من الروايات ، أو متناقضات ، أو حتى أن تحتكم أنت و هو إلى قاعدة ( نبذ الرواية كلياً ) . و ظهر ذلك الإعتماد الإنتقائي على روايات بعينها ، جلياً في كتابه الحزب الهاشمي و غيره . 

* تراه في تفسيراته و تأويلاته لآيات الله في المصحف ، لا يتورع أن ( يخبص في العمار ) و ( يخبط في الحلل ) كما يقال بالعامية المصرية ، فتفسيراته تحتوي على عوار شديد ، و أخطاء لغوية ، أو علّ الأقرب للصواب أن أقول ( فهم مخطوء بالكلية " للغة ، و إجتزاء و بعد عن ( منطق نقدي سليم ) . فكلنا قرأنا - ربما - عن تلك الحجج الواهية التي ذاع صيتها منذ الخمسينات ، على يد بعض ( المفكرين ) من أدباء و شعراء و باحثين على ما أسموه أخطاء لغوية ، أو منطقية ، أو تناقضات علمية أو إقتباسات وما زالت - للاسف - تلاك و تمتضع  و تجتر إلى يومنا هذا من قبل بعض المتفذلكين أو المتهوسين أو صهاينة المسيحية أو من مدعي الإلحاد و العلمانية ، و ( العلمانية الحقيقة منهم براء ) على قنوات مشبوهة أو كتابات ركيكة ، و قد تم الرد عليها ، منذ عهود بعيدة ، و تمحيصها و تبيانها . 

* و بمتابعة بعض الحلقات التي تعرض فيها القمني للمناظرة من قبل خصوم في الفكر ، لا تجد من الرجل إلا العصبية و السفسطة و كثير من السفاسف ، و للأسف لا تجد من مناظريه إلا مبادلة الحكم بحكم و الهجوم بهجوم ، فيتوه المشاهد و يحتار قلب المتابع ، و في النهاية هذا هو عين ما يريده القمني عملاً بالمقولة القديمة المجددة لهاري ترومن  : إن لم تستطع إقناعهم ، فشتت أفكارهم .. و عل التعبير بالإنجليزية أكثر دقة : Harry S. Truman: “If you can't convince them, confuse them.”

* الحقيقة أن سيد القمني ، باحث ، و بذل جهداً مضنياً و عنيداً في إثبات وجهات نظره ، وقد صادف في كثير من مفاصل رحلته البحثية عناصر ينادي بها كثيرون من الدعاة إلى التجديد و التنوير و الفهم الأصح للقرآن و الرسالة الأخيرة ، و للدين بشكل عام . 

* لكن الفارق - في رايي المتواضع - بين الباحثين عن الحق و بين القمني ، أنه أضاع عمره في البحث عن ما يثبت رأيه ، و ليس ما يحقق العدالة المعرفية . وهو في ذلك إنما وضع نفسه و تاريخه و علمه للأسف في نفس درجة القمص زكريا و غلمانه و جواريه ، فكان إهمالهم أوجب و نسيانهم خير رد عليهم ، لأنك لو حتى جئتهم بالبينة موثقة بكل أساليب التوثيق ، لن يرعووا و لن ينتهوا .. فكان - سيد القمني- في جهده مثل ذلك المحامي الحذق ( المدقدق ) الذي يعرف كيف يقلب الأمور ، و يأتي بأسباب براءة المجرم من سقطات فم أو أفعال أقارب الضحية .