ما زالت ارتدادات انهيار جدار برلين تتردد في أرجاء القارة الأوروبية وفي علاقات القوى الكبرى، وربما كان الصراع الحالي على أوكرانيا أحد أبرز هذه الارتدادات حتى بعد مرور ثلاثين عاماً على ما يمكن اعتباره النهاية الرسمية للحرب الباردة. لقد أخذت هذه الارتدادات أكثر من وجه، وأوصلت العلاقات بين القوتين الكبيرتين إلى توترات، كما ألقت بظلالها على الكثير من أماكن الصراع في العالم، وكانت دائماً تقترح أن ثمة خطوطاً واضحة وإن كانت باهتة بفعل انتهاء العالم القديم الذي نتج عن انتهاء المعارك في الحرب العالمية الثانية، لكنها خطوط ظلت قائمة، وأن التحولات التي طرأت في القارة العجوز لن تفلح في محوها بشكل كامل.
لقد ظلت أوروبا طوال قرون من الزمن مسرحاً للحروب والتقتيل والتدمير بين دولها وإمبراطورياتها ودوقياتها وكياناتها المختلفة. ومن المؤكد أن القارة التي تشكل قلب العالم الغربي شهدت من الحروب في الألفية الأخيرة أكثر من غيرها من القارات، وأن دولها كشفت عن رغبات عدوانية واضحة ربما ليست إلا استعادة لرغبات الإمبراطوريات السابقة في التاريخ القديم، ومع هذا حُمّلت تلك التصرفات العدوانية على قوارب من الأخلاق والمعارف، التي حاولت من خلالها تقديم نفسها كقوى تنويرية مثلاً في القارة الأفريقية أو في اكتشاف الأميركتين والمجازر التي ارتكبت بحق السكان الأصلانيين هناك. كان الاستعمار الكلمة الكبرى التي أخذت تغيّر مجرى النهر في ذلك الوقت.
بيد أن الاقتتال الأوروبي الأوروبي كان دموياً بشكل غير مسبوق في التاريخ. بالطبع الإشارة هنا إلى الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. عشرات الملايين من الأبرياء والضحايا سقطوا في اقتتال الدول الأوروبية فيما بينها، وتم تدمير الطبيعة والحضارة في مشاهد بشعة ربما لم يعشها جيلنا أو أحد ممّن يقرأ هذا المقال، إلا أن الوصف الذي تركته لنا الكتابات والمشاهد المصورة أو تلك التي أعادت تمثيلها هوليوود، أبشع من مقدرة اللغة على الاحتمال. جيوش غزت دولاً، ومدن سقطت وبعضها تدمر بشكل كامل، وجماعات بشرية تشردت وعاشت البؤس والعوز والبرد والعراء. قسوة لم تعشها القارات الأخرى حتى في أحلك سنواتها قسوة. رغم أن المدافع صمتت والبوارج ابتعدت عن الشواطئ، والطائرات همدت في مرابضها، إلا أن الحرب ظلت تعتمل في رحم القارة المنهكة. فمن جهة تمّت إعادة ترتيب الأوضاع على طرفَي جدار برلين الذي قسم القارة، وتحولت الحرب المدمرة إلى حرب باردة. تطورت أوروبا الغربية بشكل ملفت، حيث نهضت اقتصاداتها وسارت في طليعة الترتيب العالمي، وتم خلق أطر وهياكل تكاملية بين الدول المختلفة والتي تضمن عدم اندلاع الحروب فيما بينها، خاصة مع خلق شركة الفحم والحديد التي ستصبح لاحقاً الاتحاد الأوروبي، في واحدة من أنجح تجارب الوحدة والتكامل بين الدول المختلفة. وصار نادي بروكسل حلم كل الدول الأوروبية في الشطر الغربي للقارة حتى تلحق بالتقدم والرخاء.
في الشق الشرقي من القارة سارت الأمور بوتيرة مختلفة، حيث تم كل شيء على حساب الرفاه الاقتصادي. إذ تم تبني الاشتراكية التي أعاقت النمو والازدهار الاقتصادي وقتلت التنافس وتمايز الكفاءات، وتم تحميل حياة المواطن أكثر مما تحتمل لصالح العسكرة والنظم غير الديمقراطية. هذا ليس نقاشاً في حقيقة الاشتراكية ولا الماركسية، بل توصيف لما جرى من تطبيق في أغلبية دول أوروبا الشرقية. عسكرياً، تم تطوير حلف وارسو ليكون الدرع النارية لشرق القارة مقابل حلف الناتو في غربها. في المحصلة ومع ضرورة التأكيد على التعافي من تبعات الحرب، إلا أن الحرب ظلت قائمة بشكل مختلف بين شقَّي القارة.
أخذ التوتر شكلاً مختلفاً بعد سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين وتفكك الاتحاد السوفياتي. ولكن الأهم في كل ما حدث أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو بات حلم كل الدول الحليفة السابقة لموسكو ولبعض دول الاتحاد السوفياتي. وصار الانتقال من الاتحاد السوفياتي إلى الاتحاد الأوربي غاية منشودة. لم يعد حلف وارسو موجوداً، بل إن وارسو ذاتها باتت قوة مهمة في الحلف النقيض تاريخياً «الناتو». وتم تطوير الحلف الغربي بعد ضم الكثير من القوى المهمة في أوروبا الشرقية إليه، ولعل أهم قمم الحلف منذ ثلاثين عاماً كانت قمة براغ، التي تم خلالها إدخال مهام جديدة على مهام الحلف تعبر عن التحولات في العلاقات الدولية وفي مهام التدخل، وأقصد هنا إدخال مفهوم التدخل الخارجي لغايات إنسانية. براغ التي كانت حليفاً أساسياً لموسكو باتت مقراً مهماً لاجتماعات الحلف وكذلك وارسو. أغلبية دول أوروبا الشرقية صارت أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وصارت تقبل تدخلات بيروقراطي بروكسل في هيكلة إدارتها واقتصادها ودساتيرها وعلاقات جيشها بالحكومات فيها.
تغيرت أوروبا بشكل كبير، وظلت روسيا تعاني تبعات ذلك؛ في ظل الضعف الذي أصابها وفاتورة تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومتها الشرقية. لم تلتفت كثيراً لتحويل الحلفاء السابقين لتوجهاتهم في السياسة الدولية وانضمامهم للناتو وللاتحاد الأوروبي. ثمة ضرائب يجب أن تدفع، وفي مرات كثيرة علينا أن نقبل بالأشياء إذا كنا غير قادرين على تغييرها ولو مؤقتاً. هكذا كان شعور الدبّ الروسي.
الآن بات التحوّل على عتبات موسكو، وصار السكوت يمسّ مستقبل العاصمة التي كانت تهز العالم في لحظات. من هنا فإن التحولات التي ضربت القارة لم تهدأ بعد؛ إذ إن لأزمة أوكرانيا تبعاتها سواء نجحت موسكو في إعادة ترتيب قواعد اللعبة مع «كييف»، وهذا ما سيحصل، أم انجرفت الأمور إلى صراع بين أقطاب القارة. المؤكد في كل الحالات أن اللحظة الحالية ستترك أثرها على مستقبل القارة مرة أخرى حيث لم تنته الحرب الباردة بعد.