تبدو الإجابة عن السؤال السابق مربكة وغير يقينية، فالتوتر الذي تشهده الحلبة الدولية؛ إثر الأزمة الأوكرانية، تعيد التذكير بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الدولية في حال اندلاع حرب في أوكرانيا، خاصة إذا ما قررت الأطراف المختلفة الاصطفاف مع أحد الطرفين ضد الطرف الآخر، في استعادة للطريقة التي تتحوّل فيها التوترات الإقليمية إلى حروب دولية. وربما يمكن تذكر كيف تحولت الصراعات والاغتيالات في الحربين السابقتين إلى حروب طاحنة راح ضحيتها عشرات ملايين البشر، ناهيك عن الدمار الشديد الذي لحق بمدن ودول بأكملها. ثمة شيء شبيه ربما يعيد التذكير بالتوترات السابقة، وينذر بأن القادم قد يكون شبيهاً بما حدث في الماضي.
المؤكد أن القصة أكبر من مجرد صراع صغير بين موسكو القوة الثانية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وبين دولة كانت سابقاً جزءاً من اتحاد سياسي وعسكري عاصمته موسكو. القصة ليست مجرد صراع أطماع أو رغبات في تغيرات عادية على الحدود، أو مجرد تدخل لصالح أقلية روسية تسكن في الجمهورية الأوكرانية. الأمر أكبر من مجرد نزاع حدودي أو إثني يصار إلى تصويبه بفوهات البنادق إذا فشل الحوار الثنائي بين الجيران. ثمة ما يشير إلى احتمالات أبعد من كل ذلك، كما أن ردات الفعل وسرعة التجاوب الدولي مع ما يجري تقول بوضوح: إن الأمر أكبر من كل ذلك.
كنا قد أشرنا هنا، في الأسبوع السابق، إلى أن ما يجري يقترح أن الحرب الباردة لم تنته بعد، وأن ارتدادات انهيار جدار برلين عام 1989 لم تتوقف، وأن صداها ما زال يتحرك تحت القشرة الرقيقة للسلام الكوني الذي يعمّ القارة الأوربية موحداً بين ضفتيها الشرقية والغربية، وأن الحقيقة أن ثمة ما ظل يعتمل تحت هذه القشرة ولم يتوقف، وأن هذا الشيء أخذ صداه بأشكال مختلفة، وظهر إلى السطح في توترات أقل حدة طوال العقود الثلاثة الماضية، ولم يتوقف عن التمظهر بشكل كامل، عاكساً حقيقة الخلافات الدفينة بين مركزَي الصراع في الحرب الباردة التي انتهت بطريقة دراماتيكية، بعد أن بات يقيناً أن الكفة رجحت لصالح واشنطن وحلفائها.
علينا أن نتذكر كيف بدأت الحروب الدولية السابقة، إذ إن خلف الحربين الكبيرتين كان ثمة مطامح جامحة للغزو والتوسع، وكانتا تنذران بتحولات مهولة في ميزان القوة لا بد من ترجمته بنتائج جديدة في المعركة. المطلوب كان معادلات دولية جديدة تعكس هذه التحولات، وتعكس القوة الناشئة التي ترغب في فرض عضلاتها على العالم. وفي الحالتين كانت ألمانيا جزءاً أساسياً من هاتين الحربين، وفي الحالتين أيضاً كانت موسكو وواشنطن جزءاً من النتائج. المحصلة أن العالم ظل مقسماً، وأن الرغبات التوسعية عند البعض نتج عنها توزيع مصالح عند البعض الآخر. وانتهت الحرب الثانية ولم تنته الصراعات؛ إذ تحولت إلى منافسة باردة ولكن قاسية بين الحلفاء السابقين.
خلال عقود تلت، أي خلال ما كان يعرف بالحرب الباردة، ساد التوتر العلاقات بين قطبَي المعسكرين الشرقي والغربي، وفي الكثير من المناسبات كان فتيل الحرب يكاد ينزع، والأصابع ظلت طوال الوقت على الزناد، ومع هذا لم تندلع الحرب. ثمة لحظات لا يمكن نسيانها في التاريخ؛ حيث كان العالم يقف على شفا حرب عالمية ثالثة، ربما أكثرها حضوراً في الذاكرة أزمة خليج الخنازير أو الصواريخ الكوبية، وغير ذلك. ومع هذا فدائماً ما يتم نزع الفتيل في الدقيقة الأخيرة؛ لجملة اعتبارات فهمها الطرفان جيداً خلال النزاع البارد بينهما، يتمثل أهمها بأن الحرب ستكون مكلفة ومكلفة بشكل كبير.
لم يعد العالم يتقاتل بالبنادق والقنابل، ولم تعد مساحات الانتصار تقاس بمدى تقدم الدبابات أو مرمى نيران القناصة، كما لم يعد وجود الجندي في أرض المعركة ضرورياً من أجل استمرارها. ثمة تغير بشكل كبير ومبهر في طبيعة المعارك والطريقة التي تدار فيها. العالم تغير وكذلك الحرب تغيرت. لقد انتهت الحرب العالمية الثانية بأكثر المشاهد قسوة في تاريخ الحروب؛ حين تم تجريب القنبلة النووية لتقتل الأبرياء عن قصد ودون رحمة. لقد شكل سقوط القنبلة النووية على هيروشيما إعلان ميلاد الخطر الجديد في الحرب القادمة، فلن تعود الحروب بعد ذلك مجرد تبادل للقصف والنيران؛ إذ إن العنصر الجديد شكل بداية تطوير نوع الحروب القادمة.
والرسالة المهمة التي حملها هذا التطور هو أن أيّ حرب بين القوى الكبرى ستكون مكلفة، وأن تحمّل الأثمان الباهظة يجب أن يكون جزءاً من حساب ميزان القوة والخسارة. ما تطور هو ردع ذاتي لدى الجميع. الجميع بات يخيف الجميع، وبات لدى الجميع ما لدى الجميع، ولم يعد صعباً أن يتميز البعض عن البعض الآخر؛ إذا ما تم الإقرار بقوة التدمير التي يمكن أن يحدثها سلاح صغير يعمل وفق تكنولوجيا النانو الدقيقة، أو سلاح نووي يتم تهريبه من أحد المخازن. تعزز هذا مع أحداث الحادي عشر من أيلول، وانتقال تقنيات السلاح إلى القوى والمجموعات المسلحة خارج نطاق الدولة الوطنية، وعليه لم تعد القوة حكراً على الدولة وأجهزتها. مضافاً إلى كل ذلك ما يمكن أن تحدثه حرب بعيدة من دمار للاقتصاد العالمي، إذ لم يعد تدمير المصنع بشكل مباشر يضر بالإنتاج، بل إن أي إطلاق نار في زاوية بعيدة من الكوكب يمكن أن يمسّ كل أسهم البورصة في العالم.
وبعبارة أخرى، فإن كلفة الحروب الجديدة أكبر، واتخاذ القرار بشأنها يجعل الأمر أكثر تعقيداً، ما يجعل إمكانية اندلاع حرب عالمية جديدة صعباً حتى لو قامت روسيا ببعض الخطوات التكتيكية على صعيد الغزو الحدودي لحماية أقلياتها في أوكرانيا، فإن التفكير والعد للعشرة سيكون صعباً قبل أن يتخذ أيّ قرار مضاد.