الجامعة لا تنفصل عن قضايا المجتمع، ولكن هل الجامعة هي انعكاس للمجتمع، أم رافعة من روافع تطوير المجتمع وتحرره الوطني والاجتماعي؟ إذا جرى التسليم بأن الجامعة انعكاس لما يدور داخل المجتمع، وإذا التزم التعليم بالقيود التي يفرضها المجتمع على العقول فإن هذا يتناقض مع دور الجامعة الافتراضي أو النظري، ويُدخل المجتمع في خلل بنيوي يصيب ديناميات التطور الداخلية في مقتل.
ثمة دلائل تشير الى ان الجامعات الفلسطينية هي انعكاس للنظام السياسي ومكوناته التنظيمية والفصائلية، وانعكاس للمجتمع وتحولاته. وهذا ليس في مصلحة المجتمع والجامعة على حد سواء. ولما كان النظام السياسي (بسلطتيه) مأزوم فكرياً وسياسياً وديمقراطياً، فإن الانعكاس سيكون سلبياً وخطراً. الازمة السياسية خارج الجامعة تكرس التعصب والفئوية واحتكار الحقيقة والتخوين والفساد والقمع والأبوية والصراع اللاديمقراطي على السلطة وعلى مركز القرار. الانعكاس يعني انتقال عناصر الازمة الى الجامعة وهذا ما لا تحمد عقباه. فعندما تنقل الكتل الطلابية خطاباً تعصبياً، في غياب ما يفترض ان توفره الجامعة من طرق تفكير لا تحتكر الحقيقة وتحترم الحق في الاختلاف والبحث عن المشترك وتعارض التعصب، في هذه الحالة تتساوى الجامعة والمجتمع والنظام السياسي في الأزمة، وتفقد الجامعة دورها الريادي التنويري العقلاني كحيز عام مستقل له أنظمة وقوانين وخطاب وقيم تساعد في حل التناقضات الداخلية، وتساهم في بناء رأي آخر يكون جزءاً من الحل.
بعض القوى السياسية وبعض العشائر تستخدم السلاح والعنف وحرق الممتلكات في حل الخلافات، بينما من المفترض ان تمارس الجامعة سلاح النقد في تصويب وحل الخلافات. اذا انتقلت الاشتباكات بين عشائر وعائلات وفصائل وجهويات داخل المجتمع داخل حرم الجامعات، أو إذا حاكى بعض الطلبة هذا الأسلوب، كما حدث في شجار طلبة جامعة القدس، وشجار الطلبة في الجامعة الاميركية العربية/ جنين الذي أدى الى مقتل طالب وإصابة ثلاثة طلاب بجروح، فإن من شأن ذلك تهديد العملية التعليمية. واقع الامر تنتشر خارج الجامعة ثقافة التعصب الديني والعائلي والجهوي. مقابل ذلك من المفترض والمنطقي، أن تسود ثقافة التعدد والبحث والانفتاح والتسامح وحرية التعبير بما في ذلك ثقافة نقد التعصب والتخلف المنتشرة داخل المجتمع.
ثقافتان مختلفتان ومتناقضتان، واحدة منهما افتراضية تعبر عن فكر ديمقراطي تنويري عقلاني منسجم مع المصلحة العليا للمجتمع، فكر تساهم الجامعة في بنائه واحتضانه وحمايته بالأنظمة والقوانين، والثقافة الأخرى تعبر عن مصالح ضيقة لفئات مجتمعية وقوى سياسية لا تسمع ولا تسمح بالسؤال ولا بالرأي الآخر ولا بالحق في الاختلاف. وعندما تكون الغلبة لثقافة التعصب بفعل الاستخدام الاحتكاري للدين، لا يعني استسلام ثقافة التحرر بدعوى ان أكثرية المجتمع تتبنى ثقافة التعصب، أو الخضوع لما يريده الناس. من المفترض الحفاظ والدفاع عن رؤية الجامعة انسجاماً مع الوصف الوظيفي لها. في كل البلدان التي عانت من الاستعمار ومن الجهل اضطلعت الجامعة بدور تحرري وتنويري في مواجهة الاستعمار والسلطة المتواطئة معه، كانت جامعات القاهرة ودمشق وبغداد والخرطوم وتونس تحارب الاستعمار وتحارب التخلف والجهل والتعصب المجتمعي والفساد حليف الاستعمار الموضوعي كما كان يقول المفكر محمد روحي الخالدي. قامت الجامعات بذلك الدور رغم أنها كانت الأضعف في ميزان القوى، بل كانت تتعرض للقمع والترهيب. كانت بمثابة بقعة ضوء وسط ظلام دامس، بقعة تكبر وتنتشر شيئاً فشيئاً وهي تقدم المعرفة وتبدد الظلام.
حدث ذلك بفعل شجاعة أكاديميين وأكاديميات أخذوا على عاتقهم تقديم ثقافة التحرر والتنوير والفكر التحرري لطلبتهم الذين كانوا دوماً يستجيبون، وخاضوا معاً المعركة بسلاح العلم والمعرفة والبحث وبمنظومة قيم التحرر. لا يمكن الفصل بين الطلبة والأكاديميين، كان الاكاديميون وراء قصص نجاح الحركات الطلابية في العديد من البلدان العربية وفي كل مكان. الطلبة لديهم اندفاع ثوري والنخبة الاكاديمية الثورية لديها الوعي والخبرة والقدرة على التطور الفكري. النخبة تصوب الأخطاء، أذكر ذلك من خلال تجربتي في جامعة عين شمس المصرية في سبعينات القرن الماضي، كان الأكاديميون يشرفون على لجان الكليات يستمعون جيداً لتقديرات الطلبة، ويقدمون الأفكار الإضافية وينتقدون الممارسات الخاطئة للطلاب، ويدعون الى تصويبها، وكثيرا ما انتقدوا تطرفنا وتزمتنا حتى وإن بدا ثورياً، كانوا يشجعون بناء شخصيتنا المؤهلة للتغيير ولتقبل التغيير الديمقراطي من خلال الأنشطة الثقافية (مكتبات وأفلام سينما ومعارض فنية وغناء ثوري وندوات فكرية ومنتديات شعر، فضلاً عن التعليم الجامعي الذي عرفوه لنا بجملة: كيف تتعلمون مواصلة التعلم الذاتي بشكل يومي أثناء الجامعة وبعدها .. وطوال الحياة ). وبفضل هؤلاء ما زلت أتعلم وأسأل نفسي السؤال الذي كانوا يطرحونه علينا: ماذا أضفت لرصيدك المعرفي هذا اليوم.
تختلف كل مرحلة عن غيرها ولا يمكن المطابقة بين المراحل في ضوء التحولات والمتغيرات داخل كل بلد وعلى صعيد كوني، فالنظام النيو ليبرالي المعولم قام بتسليع التعليم العالي من خلال تراجع دعم الدولة والعمل بنظام الخصخصة والربح وما نجم عن ذلك من انتاج الفرد الزبون ومجتمع الاستهلاك بخصائص السوق، بدلاً من انتاج المواطن بحقوق المواطنة. ومن المفارقة اننا في فلسطين دخلنا في مرحلة تسليع التعليم بدون المرور في تجربة التنوير، وبدون المساهمة في بناء ديمقراطية على قاعدة سيادة القانون والالتزام بحقوق الإنسان والمواطن، بدون ربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي. إزاء ذلك لا يمكن القفز عن المرحلة الديمقراطية وفكر التحرر والتنوير. ثمة حاجة موضوعية لانجاز تلك المهمة. فكما صمم التعليم في الغرب النظام الديمقراطي، وكما انطلقت الأفكار التنويرية ومفاهيم المواطنة وحقوق الانسان وسيادة القانون من الجامعات الغربية، فإن هذه المهمات لا يمكن فصلها عن الجامعة. مهمات تتحقق تدريجياً مع كل انفتاح للجامعة على القوى الحية في مجتمعنا داخل فلسطين وشعبنا في الشتات، ومع كل انفتاح على القوى المناهضة للتوحش النييو ليبرالي السياسي والاقتصادي والأمني، وعلى القوى الداعمة لحق الشعوب في التحرر من الاحتلال الاستعماري والتبعية والاستبداد.
إن اهتمام الجامعة بالفكر وبتطوير نظام التعليم السائد، وبمد الجسور مع القوى المتضامنة مع الحقوق الفلسطينية، كمنظمة أمنستي التي وصمت دولة إسرائيل بنظام أبارتهايد، ومع كلية الحقوق في جامعة نيويورك التي أيدت مقاطعة إسرائيل ومعاقبتها، ومع المحكمة الفيدرالية الألمانية التي دعمت حملة مقاطعة إسرائيل، ومنظمة «فنانون بريطانيون من أجل فلسطين»، والفنانة إيما واتسون التي يتابعها 64 مليون شخص على الإنستغرام وقد انحازت لفلسطين، وهذا غيض من فيض. أعتقد أن الاهتمام بهذه القضايا الأساسية سيحيل كل الأساليب اللاديمقراطية شديدة الضرر إلى الهامش.