أحدث القرار بقانون الذي تعامل مع منظّمة التحرير باعتبارها دائرةً من دوائر الدولة الفلسطينيّة، وتعديله المرفوض، ضجة كبرى؛ إذ دلل على الاستخفاف الكبير بالتعامل مع المنظمة وكأنها فرع من الدولة، وبالأحرى من السلطة، ما طرح موضوعَ العلاقة ما بين المنظمة والسلطة والدولة إلى الواجهة؛ إذ هناك آراء تدعو إلى إصلاح منظمة التحرير، وتفعيلها بمكوناتها الحالية، أو بعد ضم حركتي حماس والجهاد إليها، بما لا يخل بالقواعد الحاكمة فيها، وأخرى تدعو إلى إعادة بناء منظمة التحرير، أو مؤسساتها، في سياق تغيرها وإحياء المشروع الوطني؛ لتستوعب الحقائق الجديدة والخبرات المستفادة، بما فيها الفصائل والمجموعات والحراكات الجديدة، وثالثة تدعو إلى تشكيل منظمة تحرير جديدة، لأن العطّار لا يصلح ما أفسد الدهر.

ومن المفارقات أنّ هناك رأيًا من الضفة المفترض أن أصحابها من سدنة الدفاع عن المنظمة الراهنة المعاكسة للضفة الأخرى التي تدعو إلى إعادة بنائها أو إقامة منظمة بديلة، يلتقي مع مجادليه، ويطالب بالكف عن ملهاة تفعيل منظمة التحرير، أو تطويرها، أو إعادة بنائها، والتركيز على تجسيد الدولة، أو تحويل السلطة إلى دولة، فهي العصفور في اليد الأحسن من عشرة عصافير على الشجرة، بحجة أنّ من الأسهل الإعلان عن دولة تحت الاحتلال، وطلب مساعدتها للخلاص منه، بدلًا من الانشغال بملهاة اسمها بناء وتفعيل منظمة التحرير.

لا يتطلب تفكيك هذه الآراء والاشتباك مع بعضها التذكير بأن المنظمة ليست مجرد إطار سياسي، أو جبهة عريضة، وإنما هي الإطار الوطني الجامع، والبيت أو الوطن المعنوي، والممثل الشرعي الوحيد، الذي لا يتطلب انحراف قيادته، أو سقوطها، تشكيل إطار، أو وطن آخر، أو دولة أخرى، بل تغيير هذه القيادة، إما عبر صندوق الاقتراع كما هو مفترض، أو عن طريق الثورة إذا نضجت شروطها في حال الإصرار على عدم إجراء الانتخابات.

سلطة بلا سلطة، ودولة تحت الاحتلال، ومنظّمة مُغيّبة

قبل القفز إلى الاستنتاجات والمواقف، علينا معرفة ما لدينا، فلا يكفي أن نتحدث عن المنظمة والسلطة والدولة وفق ما نتخيله أو نتمناه، بل لا بد من الوقوف أمام الواقع الفعلي لما تمثله، الذي يفيد بأنّ المنظمة مجرد هيكل ومؤسسات فارغة، ولا تؤدي دورًا حقيقيًّا، لدرجة يتم التعامل معها بوصفها استشارية لا تملك من أمرها شيئًا، فضلًا عن أن عملية القضاء عليها مستمرة، سواء بقصد أو ومن دون قصد، من المتحكمين بها، أو الساعين إلى قيادتها، أو تقاسمها، وأكبر شاهد على واقع المنظمة والمصير الذي ينتظرها وقائع ونتائج جلسة المجلس المركزي غير الشرعية التي عمّقت الانقسام وقزّمت المنظمة أكثر وأكثر.

أما الدولة الفلسطينية فهي حق قانوني وطبيعي وتاريخي، يجسّد حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وأكده المجلس الوطني في العام 1988 الذي أعلن قيام دولة فلسطين وفق وثيقة الاستقلال، كما أكدته القرارات الدولية، بدءًا من قرار التقسيم، وانتهاءً بقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي اعترف بدولة فلسطين كعضو مراقب، وهو يعطيها مختلف حقوق الدول، باستثناء التصويت، أي هو كنز سياسي وقانوني كان يستوجب البناء عليه، واستثماره، والتعامل على هذا الأساس وليس تكرار الإعلان عن قيام الدولة تحت الاحتلال، بينما ما حصل عكس ذلك، إذ أُهدِر هذا القرار من خلال الاستمرار في الالتزام باتفاق أوسلو وملحقاته، والالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة عليه، رغم تنكر حكومات الاحتلال له جزئيًا غداة توقيعه، وكليًا بعد فشل قمة كامب ديفيد في العام 2000.

وأكثر من ذلك، تم الهبوط بسقف السلطة لتصبح أقل من حكم ذاتي محدود، كما يظهر بعد إعادة احتلال الضفة والقطاع بعد عملية “السور الواقي” في العام 2002، وفك السلطة، وإعادة تركيبها، ونزع جزء كبير من صلاحياتها، واقتحام قوات الاحتلال لمختلف مناطقها أينما تشاء ووقتما تشاء، وإعادة تشكيل “الإدارة المدنية” ذراع الحكم العسكري الاحتلالي؛ أي أن برنامج السلطة الفعلي بات أقل من برنامج الدولة على حدود 67، بل أقل من الحكم الذاتي وفق أوسلو، وأصبح مجرد بقاء السلطة.

الخلاصة مما سبق أنّ المنظمة ليست منظمة، والدولة بلا سيادة وتحت الاحتلال، وبحاجة – حتى تتجسد فعلًا – إلى إنهاء الاحتلال، والسلطة بلا سلطة، كما قالها وكررها الرئيس محمود عباس والمرحوم صائب عريقات، ولا تعاني من مجرد نواقص كما يقول البعض، وإنما أخذت تتساوق مع السلام الاقتصادي وخطة بناء الثقة، ويراد لها أن ترتهن بالكامل لمنظومة الأمن الإسرائيلي.

أي رؤية وطنية شاملة جديدة يجب أن ترى الحقائق المشار إليها آنفًا، وتنطلق من وحدة القضية والأرض والشعب والتاريخ، وتأخذ كل العوامل التي توحد الشعب الفلسطيني، وأن ترى كذلك الخصائص والظروف الخاصة بكل تجمع، من دون تحليق في سماء الغيبيات والينبغيات والأمنيات والرغبات، وإسقاطها بشكل تعسفي على الواقع، وضمن مرشد للعمل يقوم على بذل أقصى الجهود لتحقيق أقصى ما يمكن في كل مرحلة ولدى كل تجمع، وصولًا إلى تحقيق الأهداف والحقوق الأساسية للشعب كله.

وبما أن الدولة محتلة، والمنظّمة مغيبة، والسلطة بلا سلطة، ونصف الشعب الفلسطيني مقيمٌ في أرض وطنه، والنصف الآخر في أماكن اللجوء والشتات، ومفترض بالسلطة حتى لو كانت في أحسن أحوالها أن تمثل فلسطينيي الضفة والقطاع، إذًا، فهناك حاجة لإحياء المنظمة وإعادة بنائها، بما تمثله من إطار وطني جامع.

إعادة بناء المنظمة وفق الحقائق الجديدة والخبرات المستفادة

وعند الحديث عن إعادة البناء للمنظمة، وحتى لدى من يطرحون بديلًا كاملًا منها وشق مسار جديد، عليهم أن يدركوا بأنه لا يمكن إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء، فلا يمكن إعادة بناء المنظمة كما كانت عند تأسيسها، في مرحلة النهوض الناصري القومي، والثنائية القطبية العالمية، ولا مثلما كانت بعد أن دخلتها فصائل الثورة الفلسطينية في العام 1969، إذ كانت هزيمة حزيران بمنزلة الانطلاقة الحقيقية للثورة الفلسطينية، حيث كانت الأنظمة العربية مهزومة وبحاجة إلى الثورة لستر عورتها، لدرجة انتقال الزعيم جمال عبد الناصر من معارضة حركة فتح والثورة الفلسطينية إلى اعتبارها أنبل ظاهرة أوجدها التاريخ، وأخذ ياسر عرفات معه إلى موسكو من دون تنسيق مسبق مع القادة السوفييت، ما فتح أبواب العلاقة الفلسطينية السوفيتية، ولا كما كانت بعد الخروج الفلسطيني من لبنان في اعام 1982، حيث ضعفت الثورة والمنظمة بعد الهزيمة، وبدأت بالتدهور السياسي، ولا بعد تقزيمها منذ توقيع اتفاق أوسلو، الذي جاء كإحدى الثمار الخبيثة لانهيار الاتحاد السوفييتي والسيطرة الأحادية على العالم، وما رافقها ولحقها من انهيار التضامن العربي. فأوسلو رغم السياق الذي جاء فيه كان بمنزلة انتحار سياسي للمنظمة، ولا تزال تداعياته تتواصل حتى الآن.

هناك حاجة لتأسيس جديد ثالث للمنظمة يأخذ، بالحسبان، التغييرات الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية، فالعالم اليوم يمر بمرحلة انتقالية، وهناك نظام عالمي جديد يطل برأسه، يمكن أن يكون متعدد الأقطاب، ولكنه يمر الآن بمرحلة تجاذب شديد وسيولة لا حصر لها إقليميًا ودوليًا.

لو أن الدولة ناجزة وحاصلة على استقلالها الوطني. فمن الممكن أن تحل محل المنظمة، التي يتغير دورها في هذه الحالة لتؤدي دورًا مشابهًا للوكالة اليهودية المعنية بهجرة اليهود إلى فلسطين، بأن تتولى عودة الفلسطينيين إلى وطنهم.

لا يزال إنجازُ الاستقلال بعيدًا، بل بات أبعد ولم يعد الخيار الوحيد، بل يجب الانفتاح على مختلف الخيارات، وهو بحاجة إلى تغيير موازين القوى، المحلية والإقليمية والدولية، بما يسمح بإنهاء الاحتلال؛ ما يعني أننا لسنا حتى الآن في مرحلة الانتصارات الكبرى، وهذا يتطلب التركيز، في هذه المرحلة، على الدفاع الإيجابي، وتعزيز عوامل الصمود، والتواجد الشعبي على أرض فلسطين، وتمسّك الشعب في الخارج بثقافته وهويته الوطنية، وبقاء القضية حية، ضمن أفق إنجاز تقرير المصير والحرية والعودة والاستقلال والحل التاريخي الديمقراطي، وتقليل الأضرار والخسائر، والحفاظ على ما تبقى من مكتسبات، وإحباط المشاريع والمخططات المعادية الرامية إلى تهميش القضية الفلسطينية وتصفيتها.

وعلى أهمية الشروع في الحوار الوطني الشامل التمثيلي والجادّ، وعدم إهمال العمل من فوق، إلا أنه لن يجدي إذا لم يسبقه ويرافقه التركيز على العمل من تحت لفوق، وعدم الاكتفاء بالنقد والمعارضة النظرية واللفظية لما هو قائم، وتسجيل مواقف للتاريخ، وإنما تقديم البديل في الممارسة العملية؛ لتغيير الحقائق على الأرض، بما يؤدي إلى خارطة سياسية جديدة، إضافة إلى إعطاء الأولوية للوحدة الميدانية في مواجهة الاحتلال إلى حين تحقيق الوحدة السياسية، وتشكيل الأطر الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجمع الفلسطينيين وتوحدهم وتكاملهم، وتقديم المبادرات والنماذج التي تستعيد ثقة الشعب بالنخب والقيادات والفصائل، وليس الانشغال بتشكيل إطار مؤسسي بديل لن يكون مسموحًا له حتى الآن بأن يرى النور، والإقدام عليه سيزيد التناحر الداخلي، ويضيف عقبات جديدة.

رؤية شاملة لإعادة بناء النظام السياسي

إنّ المطلوب بلورة رؤية شاملة، لن تتجسد إلا بإعادة بناء النظام السياسي بمختلف مكوناته: المنظمة، والسلطة، والدولة، والأحزاب، والنخب، على أسس وطنية، وديمقراطية توافقية، ومشاركة حقيقية، وتسعى إلى تشكيل جبهة وطنية عريضة تهدف إلى إنقاذ القضية، وأداة تجسيدها منظمة التحرير.


لا بد أن تشمل الرؤية الشاملة العمل على تفعيل دور فلسطينيي الخارج؛ للحفاظ على الثقافة، والهوية، والدور الوطني، وحق العودة، وحقوقهم المدنية والديمقراطية، حتى ينهضوا ويأخذوا دورهم كاملًا في المشروع الوطني، ويتجاوزوا حالة التجاهل لحقوقهم وتهميش دورهم منذ أوسلو وحتى الآن.

ولا بد أن تشمل كذلك نهوض شعبنا في الداخل في إطار موحد – نظرًا إلى خصوصية وضعهم – يجمع ما بين النضال الوطني والمدني، من دون تغليب أحدهما على الآخر، الذي يقود إما إلى ترك الجماهير ضحيةً للأحزاب الصهيونية، أو للأحزاب العربية المتصهينة.

كما لا بد أن تشمل الرؤية مهمة العمل على إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة، من خلال مؤسسات واحدة، تراعي الاختلاف في ظروف الضفة عن القطاع، في ظل مرجعية وطنية مؤسسية قيادية واحدة.

السلطة، لا الدولة، هشّمت المنظمة وهي بديلها

إن الخطر الداهم على القضية والمنظمة يتمثل في ابتلاعها من سلطة الحكم الذاتي، وهو الخطر الذي يشكل البديل للمنظمة من داخلها، لأن كل المحاولات التي جرت لتشكيل بدائل من المنظمة فشلت، والسلطة هي البديل الناجح حتى الآن، وإذا لم تتم المسارعة إلى إعادة تعريفها وتغييرها وإعادة النظر في علاقتها بالمنظمة، ستقضي على المنظمة كليًا، وتُحَوُّلُها إلى سلطة

المشوار طويل، لكن الأمل كبير بقطعه بأسرع وقت ممكن إذا توفر الوعي والإرادة والفعل، فلا يوجد حتميات في التاريخ وإنما ضروريات وتحقيق الضرورات ليس مستحيل بل ممكنا إذا أدركنا أن التاريخ إما أن يُصنع، وإما أن يجعلك ريشة في مهب الريح.