بعد التراشق بين واشنطن وموسكو بفرض العقوبات الاقتصادية، أول من أمس، يمكن القول بأن حرباً باردة ولكن من طراز مختلف عن تلك التي كانت بين البلدين، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، قد بدأت بين البلدين اللذين فضلاً عن قوتهما الاقتصادية العظمى تعتبران أقوى قوتين عسكريتين في العالم، يدل على ذلك ما تمتلكانه معاً من قنابل نووية يعادل 90% مما يوجد على الأرض من السلاح النووي الرهيب، لذا فإن العالم عاش أياماً عصيبة جراء التوتر الذي وقع بينهما، مخافة أن يؤدي الى اندلاع حرب عسكرية بينهما، على خلفية التوتر الحدودي بين روسيا وأوكرانيا، رغم أن العالم كان يستبعد خيار المواجهة العسكرية، وكان يستبعد تماماً اللجوء لاستخدام السلاح النووي بينهما، حتى لو وقعت الحرب بين الدولتين الأعظم في العالم.
لكن تدرج حدة التوتر بين كل من موسكو وواشنطن، قد بدأ على غير ما كانت عليه العلاقة بين البلدين منذ تفكك الاتحاد السوفياتي السابق قبل ثلاثة عقود، بل على غير ما كان عليه قبل أكثر من عام، حين كانت تربط كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب علاقة خاصة، حيث كان ترامب قد حدد مع دخوله البيت الأبيض أولويات صراع واشنطن مع كوريا الشمالية، ثم مع الصين وإيران، في حين حدد الرئيس بايدن، بمجرد دخوله البيت الأبيض مطلع العام الماضي، أولوية الصراع مع روسيا، ويبدو أنه في الوقت الذي يكاد فيه يغلق ملف إيران، سارع لفتح الملف مع روسيا، وعينه على أوروبا، التي قال مع دخوله البيت الأبيض إنه ينوي إعادة العلاقة الإستراتيجية معها، والتي تراجعت أولاً بعد انتهاء الحرب الباردة، ثم مع إجراءات ترامب الخاصة بفرض الجمارك على التبادل التجاري مع الحلفاء، سواء كانوا أوروبيين او كندين او غيرهم.
في الحقيقة يبدو بأن كلاً من واشنطن وموسكو في الأزمة الأخيرة تعاملا مع أوروبا، كما لو كانت كرة القدم التي قاما بركلها تباعاً، فواشنطن تسعى الى إعادة اوروبا لبيت طاعتها، كما كان حالها ابان سنوات الحرب الباردة، وذلك من خلال إعادة تفعيل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وموسكو تحاول ان تثير مخاوف أوروبا من أن أميركا تجعل منها ميدان الصراع بين الدولتين العظميين، ليس فقط لتعيد تفعيل الناتو، ولكن أيضا لتلحق الضرر بالاقتصاد الأوروبي، بهدف إضعاف الاتحاد الأوروبي، وهو أداة أوروبا للتخلص من الهيمنة والتبعية للولايات المتحدة، فأوروبا تستورد الغاز والنفط الروسي، فيما روسيا تعتبر أكبر مستورد للبضائع الأوروبية، وهكذا حدث، ولم يكن من الصعب على جو بايدن أن يجد الوسيلة أو المدخل لفتح باب الصراع مع روسيا وهو يعلم جيداً بأنه لن يصل الى درجة الحرب العسكرية، ولكن الى حرب اقتصادية، تزيل من طريق تفرد أميركا بقيادة العالم منافساً سياسياً، عسكرياً واقتصادياً، ربما يعتبر أكبر قوة عسكرية، وهي لا يمكن أن تستخدم حالياً، ولكن أقل قوة اقتصادية من الصين، لعله يكسبها كما يعتقد.
والمدخل الجاهز كان أوكرانيا، التي سبق لها وكانت الدولة الثانية في الأهمية بعد روسيا ضمن دول الاتحاد السوفياتي السابق، بل كانت مع روسيا وبلاروسيا الدول التي أسست الاتحاد الذي ضم 15 دولة، والتي كان يوجد على أراضيها نحو خمسة آلاف سلاح نووي، لكنها سلمتها لموسكو بعد الاتفاق بينهما برعاية الولايات المتحدة عام 1994، والذي اتبع باتفاق بودابست بمشاركة بريطانيا إضافة للدول الثلاث، مقابل ضمانات أمنية لأوكرانيا.
لاحقاً تغيرت الأحوال، حيث كانت بودابست مجرد اتفاقية أمنية، لم تلحظ التداخل بين الدولتين اللتين كانتا لنحو سبعين عاماً ضمن دولة واحدة، فقد اندلع النزاع بينهما حول القرم، ثم ظهرت الحركات الانفصالية في شمال شرقي أوكرانيا، حيث يتحدث سكان تلك المنطقة الروسية، وفعلاً أعلنت كل من دونيستك ولوغانيسك استقلالهما كجمهوريتين شعبيتين، وما زال الصراع الداخلي هناك قائماً.
كل ذلك لم يدفع الأمور نحو التوتر، ولا حتى ضم موسكو للقرم عام 2014، لكن محاولة واشنطن ضم أوكرانيا لحلف الناتو، هو الذي أطار صواب موسكو، لأن الحلف أولا يعتبر حلفاً عسكرياً موجهاً ضد روسيا بالدرجة الأولى، وسبق لواشنطن أن ضمت العديد من دول حلف وارسو في أوروبا الشرقية التي كانت مع روسيا أعضاء في حلف وارسو المقابل للناتو، لكن لم تكن أي منها عضواً في الاتحاد السوفياتي، وليس على هذه الدرجة من القرب الحدودي أو التداخل العرقي كما هو حال أوكرانيا.
السؤال هنا هو لماذا دفعت واشنطن في هذا التوقيت كييف لتحضير طلب انضمامها للناتو؟ ومن الواضح بأن الإجابة لها علاقة باستفزاز موسكو، ودق إسفين الخلاف بينها وبين أوروبا، بل وفتح باب الحرب الاقتصادية عليها، لإخضاع الطرفين لإدارة واشنطن، حتى تتفرغ وهي قطب دولي أقوى لمقارعة القطب الاقتصادي الأهم، ونعني به الصين.
وكان يمكن احتواء الأمر لو أن واشنطن تفهمت أو أجابت على المطلب الروسي الخاص بالضمانات الأمنية، ثم بإغلاق الباب أمام عضوية أوكرانيا في الناتو، ولأن الخاسر الأكبر من شد حبل الصراع هذا الى آخره هو أوروبا، فقد حاول كل من الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني التوصل لحل، حتى أن الرئيس مانويل ماكرون أعلن قبل أيام عن ترتيب لقاء قمة بين بوتين وبايدن، لكن إعلان موسكو اعترافها باستقلال كل من دونيستك ولوغانيسك، دفع فوراً الإدارة الأمريكية لإعلان فرض العقوبات التي تعتبر رقم 101 في هذا السياق، والغريب أن الاتحاد الأوروبي سبق واشنطن في فرض العقوبات التي طالت 351 نائباً في الدوما، أي مجلس ممثلي الشعب الروسي لأنهم مارسوا حقهم الطبيعي في التصويت على قرار بوتين الاعتراف بجمهوريتي اقليم دوناباس، بما يعني بأن الأوروبيين فقدوا صوابهم، بممارسة القمع بحق ممثلي الشعب حين يبدون رأيهم في موقف سياسي.
وكل الغرابة تظهر حين نعيد التذكير بالحرب التي شنتها أميركا على صربيا قبل عقود، من أجل تمكين البوسنة والهرسك ومن ثم كوسوفو من الاستقلال عن صربيا، وهي التي تمنع اليوم ممارسة شعوب دوناباس حق تقرير المصير، حيث يمكن حل المشكلة بإجراء استفتاء في المنطقة، لكن من الواضح بأن نزعة الهيمنة وأحادية القطبية تطل برأسها، بعد ثلاثة عقود مضت، ظهر بعدها للولايات المتحدة، بأنها لم تعد القطب الوحيد الذي يتحكم في العالم منفرداً.
أغلب الظن بأن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد، لا على الحدود بين أوكرانيا وروسيا، وحسب، ولكن في عموم العالم، فعالم ما بعد الأحادية القطبية، يواجه إرهاصات إعادة تشكيل عالم ما بعد العالم أحادي القطب الذي ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة، قبل ثلاثة عقود مضت.