التاريخ، هذا الاسم السري الذي اختصر تجارب البشر وصراعاتهم على الجغرافيا متواصلاً بلا انقطاع صنعت أحداثه المعارك التي لم تتوقف منذ فجره، كل معركة تمهد للأخرى وكل سلاح يسلم أجساد البشر لوريث أكثر تطوراً وأكثر فتكاً، تاركاً ما يكفي من التراجيديا المبتلة بالدماء والدموع لمدن وأفراد لم يكن ذنبهم سوى أن السلاح حين يتكدس يصنع ما يكفي من غواية الاندفاع ليصبح في لحظة هو من يصنع السياسة بل ويقودها تاركاً ندوباً حادة على وجه البشرية.
كانت أوروبا مسرحاً لأقسى حروب البشرية وصراعات امبراطوريتها، ففي أوروبا لم تكن الحروب مزحة بقدر أن تلك القارة لم تتنازل عن أن تجر كل أرضها وسمائها في حروب ليست أقل من عالمية، طحنت نفسها مرتين في القرن الماضي. وظل التاريخ هاجساً يعود بالذاكرة القلقة عندما يتململ السلاح في تلك القارة التي اخترعته وأحالت السيف على التقاعد، ومن سخريات قدر القارة أن سلاح السم الذي طبخته في معاملها ومصانعها تذوقه خيرة أبنائها.
كانت الحرب العالمية الثانية آخر الحروب الكلاسيكية والبشرية التي تعامل فيها جندي مقابل جندي ودبابة مقابل دبابة ورصاصة مقابل رصاصة. كانت الانتصارات تتحقق بكفاءة الخطط، وقادة كانت لمفاجأتهم ومناوراتهم وشجاعتهم ومغامرتهم ما يصنع النصر. لكن الآن وبعد ما أنتج من أجيال من التكنولوجيا والسلاح النووي لم تعد تنفع كل خطط الحروب القديمة ولا حتى القياس عليها ولا التقديرات والتحليلات للقياس صالحة لما كان في حروب سابقة، فقد تغير الزمن وتغيرت معاركه ولم تعد شجاعة الجندي وارادته المجبولة بالعرق ضماناً للنصر في اللحظة التي أصبح يمكن كسب حروب بضغطة زر عن بعد آلاف الكيلومترات.
هنا فإن حسابات الحرب هذه المرة هي حسابات لا بد وأن تصطدم بأقصى ما أنتجته البشرية من سلاح كفيل بفناء البشرية، وقد تمت بتجربته مرة واحدة ليحسم الحرب في الشرق الآسيوي ويترك العالم مصدوماً حتى اللحظة، لكن تلك التجربة رفعت إشارة حمراء ما زالت في وجه الجميع أن الحروب لم تعد أقل من الفناء، وتلك معضلة السياسة التي باتت تتفوق عليها كثيراً آلة الدمار.
هنا مأزق اللحظة في أوروبا التي تصوب البشرية أنظارها الى حدودها الشرقية، لتستعيد الذاكرة كل هواجسها المائلة في هيروشيما ونجازاكي. وان كانت تلك التجربة أرغمت الإمبراطور هيروهيتو أن يجثو أمام قدمي ماك آرثر، فلا أحد يتصور ما ستكون عليه حروب أصبحت كل أطرافها تتكئ على عشرات ما امتلكه ذلك الجنرال الأميركي الذي قاد قوات الدولة العظمى في شرق آسيا ليستقبل إمبراطور اليابان صاغراً على بارجته الحربية ليوقع الاستسلام.
أوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مصدومة بعد سحق مدنها وتشرد شعوبها وثكل أمهاتها ويُتم أطفالها، أعادت صياغة كل مفاهيمها تحت وقع الصدمة التي كانت بحاجة لأجيال لترمم ذاكرتها بعد أن تحطمت المجتمعات. وحين لم يعد الرجال من الحرب وأدركت حجم المأساة التي ارتكبتها بحق نفسها بدءاً من التعليم للثقافة والفن والمسرح «مسرح العبث هو نتاج الحرب» والسياسة والاقتصاد، وحين بدأت تتعافى كأنها أخذت على عاتقها عدم تكرار مآسي الحروب.
نظمها السياسية كانت تتشكل ارتباطاً بذلك الضمير الجمعي المصدوم كأنها تودع تاريخ الدم، وبضمنها كانت تتخلى عن قادة المعارك تشرشل في ألمانيا، وديغول في فرنسا الذين أحالتهم للتقاعد. وقليلاً قليلاً كانت كأن لسعة الضمير تعيد الاعتبار للإنسان كتعويض عن الكارثة، وأصبح الاقتصاد أولويتها، وتحولت الى دول رفاه وأصبحت الموازنات تنفق على التعليم والصحة والترفيه بدرجة ربما أكبر في بعضها من موازنات الأمن والجيوش، واستبدلت الصراعات باتحاد أوروبا أكتفى جزؤه الشرقي بحلف وارسو، والغربي بحلف الناتو دون أن تشعر أي دولة بأنها ملزمة بخوض حرب وحدها واستنزاف مواردها بل ما يشبه تقسيم عبء الدفاع. ومنذ حوالى ثمانية عقود لم تدر حروب بين دول أوروبا بل كانت داخلية فقط على نمط يوغسلافيا.
استبعاد القادة والعسكريين من الحكم كان نتاج اعادة النظر في المأساة وارتباطاً بثقافة السلم والحوار، وأصبحت المؤسسة بديلاً عن القائد الفرد أو الزعيم القادر على قيادة الحرب، لتبحث عن قادة مؤهلين بعلوم مختلفة تلائم مستجدات البناء والرفاه، فقد استدعت ألمانيا عالمة الفيزياء أنجيلا ماركل، فيما كانت فرنسا تنتخب الخبير المصرفي إيمانويل ماكرون، لتكسر هيبة الأحزاب التاريخية العريقة، وتتوج بريطانيا صحافياً على رأس حكومتها، كأنها تقول إن الحروب أصبحت شيئاً من الماضي البعيد.
فجأة يفيق الجميع على كابوس أوكرانيا مسلحاً بما يكفي، ليس فقط لتدمير أوروبا بل البشرية كلها، وهنا المعضلة التي تصلح لها الحروب، لأن المهزوم فيها يملك ما يكفي من هزيمة العالم وتحويله الى جحيم. فلو كان لدى ألمانيا في الحرب العالمية سلاح نووي لما انتحر زعيمها قبل أن يحرق نصف العواصم. هنا معضلة خصوم بوتين، وهنا مصدر قوته ومراهناته، ولأن لا مهزوم في حروب القوى التي تملك القنابل النووية، ولأن المهزوم يستطيع تحويل كل المنتصرين الى ضحايا في لحظة فلا حروب عالمية... هنا تكمن أزمة قارة غادرت الحروب الى غير رجعة في زمن لم يعد السلاح يرسم خرائط بل يحرق كل الخرائط... ما العمل إذاً؟؟