أربعة أيام من الحرب بين روسيا وأوكرانيا كانت كفيلة بإغلاق الطرق أمام إمكانية التوصل إلى وقف هذه الحرب والجلوس إلى طاولة الحوار.
مع اتساع نطاق هذه الحرب، حتى انخرطت فيها الولايات المتحدة، وأوروبا بأكملها تقريباً، فإن حجم ونوع التدخل الخارجي الذي يتسم بالتنوع والحدة، وحزم العقوبات الاقتصادية والسياسية والأمنية، من شأنه أن يعقد الموقف، ويشكل عقبة كبيرة أمام إمكانية وقف هذه الحرب ما يرجح إمكانية استمرارها وربما توسيع دائرة الصراع.
هذه الحرب تشكل المعلم الأبرز على التحولات الدولية الجارية منذ بعض الوقت، نحو تغيير النظام العالمي الذي نشأ تحديداً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، و"حلف وارسو" العام 1989 والذي تسيدت عليه منفردة الولايات المتحدة الأميركية. هذا يعني أن الصراع الدموي الجاري، يجر تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية عميقة وواسعة، يدشن مرحلة على الأرجح أن تشهد المزيد من الصراعات الكبرى، والحروب شبه الكونية.
روسيا فتحت الطريق، لاختبار مدى قدرة الولايات المتحدة، وحلفائها على الدفاع عن مكانتها ومصالحها وتحالفاتها، فثمة من يرجح أن تفتح الصين في وقت لاحق، صفحة استعادة تايوان إلى السيادة الصينية، ما يشكل في حال حصوله ضربة استراتيجية لمكانة ومصالح واستراتيجيات الولايات المتحدة ويرغمها على التراجع لصالح القوى الناهضة.
بالتأكيد فإن روسيا، قبل أن تقدم على هذه الخطوة، كانت قد أجرت حساباتها على نحوٍ دقيق، واستعدت لكل ردود الفعل من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، في ردها على حزم العقوبات الأميركية والأوروبية المتزايدة، أعلنت روسيا أنها ستتخذ بدورها عقوبات قاسية، وأنها تعرف نقاط ضعف الغرب. علينا أن نصدق مدى جدية هذه التهديدات، فإذا كانت العولمة قد خلقت آليات التداخل بين الأمم، فإن لدى روسيا إمكانيات التأثير على من يتخذون مثل هذه العقوبات.
واضح أن العقوبات الاقتصادية لا تلحق ضرراً كبيراً بروسيا، وإنما أيضاً بالدول التي أقدمت على اتخاذ هذه العقوبات، بمعنى أو آخر يتكرر بعض مشاهد الحرب العالمية الثانية، حيث الحرب تطحن أوروبا، فإن الولايات المتحدة دخلتها من خارج الميدان، وخرجت منها تعلن الانتصار دون أن تدفع الثمن الذي دفعته أوروبا.
لا تستطيع الولايات المتحدة أن تعوض أوروبا عن حاجتها من الغاز الروسي، بالإضافة إلى النفط حتى لو زادت دول "أوبك" من حجم إنتاجها ناهيك عن المخاوف الأمنية نظراً لامتلاك روسيا ترسانة حربية ونووية هائلة.
لم يكن ممكناً أن تتسامح روسيا مع محاولات الولايات المتحدة إعادة إحياء وتوسيع "حلف الناتو" الذي يضم ثلاثين دولة، جزء منها على جوار روسيا. كانت الولايات المتحدة تعمل من أجل ضم أوكرانيا وجورجيا للحلف ما يهدد روسيا من الغرب والجنوب، ويقرب التهديد على الصين المنافس والعدو الأول للولايات المتحدة.
المشهد الجاري في الميدان يقترب من أن يتحول إلى حرب عالمية، من نوعٍ جديد يناسب هذا الزمن، الذي يشهد حالة ردعٍ نوويٍ خطير، وتعدد الدول التي تحوز على قدرات نووية.
ماذا يعني أن تتجند دول أوروبا والولايات المتحدة لاستخدام كل قوتها الاقتصادية والسياسية للضغط على روسيا، وأن تقدم معظم دول "الناتو"، إمكانيات تسليحية لأوكرانيا، فضلاً عن أن معظمها أغلقت أجواءها أمام الطيران الروسي؟
كم تستطيع أوروبا الصمود إذا طالت هذه الحرب، أمام الأضرار الهائلة التي ستعاني منها نتيجة إجراءاتها الاقتصادية والمالية، وهل يمكن أن تحافظ على وحدة الموقف. واضح إزاء الموقف من نظام "سويفت" المالي، أن دولاً مثل ألمانيا الشريكة الأوروبية الأكبر لروسيا، لا تستطيع أن تقدم على خطوة إخراج روسيا من هذا النظام، ما يؤشر على إمكانية تفكك الموقف الأوروبي لاحقاً.
يستطيع النظام الأوكراني الصمود لأيام وأسابيع أخرى أو أكثر بالنظر لما توفر له من أسلحة وذخائر نوعية، ولكن هل تستطيع أوروبا تحمّل ملايين المهاجرين من الأوكرانيين والمقيمين الذين بدؤوا يتدفقون إلى بولندا والسويد ورومانيا ودول أخرى؟
هي مرحلة الاصطفافات الكبرى والتاريخية، على المستوى الدولي، خصوصاً أن الأمم المتحدة، لم تعد قادرة على أن تفعل شيئاً في ضوء تركيبتها، والانقسام الذي تشهده ما يعني أن نظامها سيتعرض للتغيير، وكذلك قواعد عملها وآلياتها.
ثمة من يتهم روسيا بمخالفة وانتهاك القانون الدولي، ولكن أين هي الدول التي تبدي حرصاً كاذباً على القانون الدولي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة والفظة والتاريخية للنظام الدولي؟ وأين المتباكون على ما يتعرض له المدنيون في أوكرانيا، إزاء القتل اليومي الجماعي والفردي الذي يتعرض له الفلسطينيون على يد الاحتلال الإسرائيلي؟
إزاء هذه الحرب، والموقف منها، يحتاج الفلسطينيون إلى استعادة وحدتهم وقوتهم، لكي يعيدوا لقضيتهم مكانتها من الاهتمام الدولي وعلى قاعدة التمسك بالقانون الدولي والحقوق المشروعة لكل شعوب الأرض، المحزن أن الدول العربية تتصرف وكأنها خارج التاريخ. فالعديد منها لم يعلن موقفاً، ومن أعلنت موقفاً لا يتجاوز حدود الدعوة لضبط النفس ووقف الحرب، أما إسرائيل فإنها وفق قراءاتها للحاضر والمستقبل تأخذ موقفاً متحفظاً نسبياً رغم إعلانها الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة.
الخلاصة أن العرب يهمشون أنفسهم ويقدمون أنفسهم ضحايا للاستخدام هم وثرواتهم كما كان حالهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية.