قلنا في المقال السابق، إن سؤال الخديعة أو الاستدراج يدور في أذهان الجميع، وفيما إذا وقعت روسيا في «فخّ» الاستنزاف الغربي لها، تمهيداً لكسر الحلقة التي تمثلها، بهدف الاستفراد بالصين وتكريس هيمنة الغرب وتحكّمه بالنظام الدولي في الظروف الجديدة.
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من وضع الحرب الأوكرانية الروسية في سياقاتها التاريخية الحقيقية، وليس المفبركة على عجل في الإعلام الغربي المغرض.
هذه الحرب لها جذور ومقدمات، ولها محطات مفصلية سبقت نشوبها، ولها معطياتها التي لم تنضج إلّا في الآونة الأخيرة.
 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومته وانهيارها مباشرة، باشرت الولايات المتحدة بدعم من الدول المشاركة في الحلف الأطلسي بضم بلدان أوروبا الشرقية بصورة مستعجلة وانفعالية لعضوية الحلف، ودون أسباب موجبة أو ملحّة أو مبرّرة، وحيث دخلت بولندا وتشيكيا وهنغاريا، ثم رومانيا وبلغاريا ودول البلطيق الثلاث: أستونيا ولاتفيا وليتوانيا. كانت روسيا في أوضاع سياسية واقتصادية مزرية، وكان الأمر بالنسبة لها كمن تجرّع السُمّ وصَمَتْ.
أرادت روسيا آنذاك أن تختبر الغرب لتعرف فيما إذا كان قد تخلى عن أطماعه وأهدافه بعد أن انتصر في «الحرب الباردة»، وبعد أن انتهى عصر الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين، وتحولت روسيا إلى الاقتصاد الرأسمالي، أو إلى ما يُعرف باقتصاد السوق، وطلبت هي بنفسها الانضمام إلى الحلف، على اعتبار أن الأمن الأوروبي أصبح واحداً وموحَّداً.
لكن الغرب رفض، وماطل وراوغ لأسباب تتعلق بالضبط بتلك الأهداف والطموحات.
وبدلاً من ذلك، باشر بالعمل على ضم كل من أوكرانيا وجورجيا للحلف، ولولا الموقف الحازم من قبل روسيا في حينه لكانت روسيا محاصرة ومطوّقة، وتحت رحمة هذا الغرب.
فهمت روسيا الخطة الغربية وأدركت أن الأمر لا يتعلق بالأيديولوجيا وإنما بالهيمنة والسيطرة.
حقق الغرب اختراقاً استراتيجياً هائلاً ضد الأمن القومي الروسي، عندما اختصر المسافة التي تقطعها الصواريخ الاستراتيجية الغربية في زمن لا يتعدّى سبع دقائق بعد أن كان هذا الزمن يزيد على 45 دقيقة، هنا، روسيا خسرت معركة بوزن عدة حروب، وحتى العام 2008 لم تتمكن روسيا أن تفعل شيئاً لدرء الأخطار بسبب احتياجها لعامل الزمن لإعادة بناء وهيكلة اقتصادها، وإعادة تزويد جيوشها بأحدث التكنولوجيات العسكرية، وضمان استقرار السلطة السياسية.
ومنذ ذلك الوقت، بدأت روسيا بالهجوم المضاد المتدرّج والمدروس، البعيد كل البعد عن المغامرة أو استعجال التنفيذ، ووضعت كل خططها في منظومة أولويات محسوبة بدقة، وذلك لأن تحديد الأولويات هو الشغل الشاغل للعلوم السياسية وللسياسة في بعدها العملي المباشر.
الأولويات محددة بالضبط، وهي أوكرانيا وجورجيا، وليس دول البلطيق وليس أوروبا الشرقية التي كانت قد التحقت بالحلف وبالاتحاد الأوروبي، ناهيكم عن أن تلك البلدان ليس فيها روس، وليست ناطقة بالروسية. دول البلطيق كلها مجتمعة ليس لديها لا المساحة ولا السكان لكي تحتلّ أي أولوية من أي نوع كان، هذه البلدان الثلاثة هي بحجم موسكو وضواحيها.
دعمت روسيا انفصال مقاطعتين كبيرتين عن جورجيا ومقاطعتين من الدونباس عن أوكرانيا، واحتلت شبه جزيرة القرم لقطع الطريق على الغرب الذي حاول الإغلاق على الأسطول الروسي في البحر الأسود. وكانت قد أحاطت نفسها بحلف «رابطة الدول المستقلة» وشاركت بصورة مباشرة «باستقرار» هذه البلدان، إضافة إلى ضمانها للولاء المطلق من قبل الجمهورية الشيشانية.
حاولت روسيا من خلال اتفاق مينسك حول حفظ السلام في الدونباس أن تحل النزاع سلمياً، لكن أوكرانيا ومن ورائها الغرب شن حرباً شعواءَ على «الانفصاليين» في الإقليم بواسطة الجيش الأوكراني المساند من الغرب ومن الميليشيات الفاشية التي تجاهر بالعنصرية، وتجاهر بالعمل على قتل كل من يتكلم الروسية، وحرقت ودمرت عشرات البلدات في القرم والدونباس بأقسى أشكال العنف والإرهاب من الطراز «الداعشي».
تحاول روسيا منذ أكثر من ثماني سنوات إقناع الغرب بعدالة مطالبها لجهة عدم انضمام أوكرانيا إلى الأحلاف الغربية، وسياساتها المعادية لروسيا، وضرورة توقف الحلف عن التوسع شرقاً، لأن ذلك يعني تهديداً وجودياً مباشراً للأمن القومي الروسي، لكن الغرب أدار ظهره لكل بادرة سياسية، بل وأصبح يحرّض أوكرانيا على خنق روسيا في البحر الأسود.
 من هنا، حسمت روسيا الموقف في شبه جزيرة القرم في العام 2014، وأصبحت تحاول التعايش مع العقوبات التي فرضها الغرب وهي عقوبات في كل المجالات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية وبلغت 100 عقوبة بالتمام والكمال.
فهمت روسيا منذ ذلك الوقت أن الحرب في أوكرانيا (آتية لا ريب فيها)، وقامت بإعادة هيكلة اقتصادها وفق منظور المزيد المزيد من العقوبات، وقامت بالاعتراف المباشر بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك على كامل حدودهما، تمهيداً لوضع أوكرانيا أمام خيارين لا ثالث لهما.
إما الإقلاع عن كل محاولات الانضمام إلى حلف «الناتو»، في إطار اتفاق دولي موقّع عليه من قبلها ومن قبل أعضاء الحلف الأطلسي أو بضمانته الموقعة، أو انتظار عملية عسكرية كبيرة تؤمّن لروسيا هذا المطلب.
ولأن أوكرانيا لا تملك من أمرها شيئاً، ولأن الغرب هو الذي زجّ بها لتلعب هذا الدور، ولأن الغرب لم يعدل عن خططه لضمها للحلف منذ العام 2008، وكان يناور ويداور للبحث عن فرصة مواتية لهذا الضمّ، فقد تعذر على روسيا والحال هذا أن تحجم أو تهادن، كما تعذر عليها على مدى أكثر من ثماني سنوات من المناشدة والتحذير. فقد أصبحت ملزمةً من زاوية فهمها للمعنى الدقيق والمحدد لما يُعرف بالتهديد القومي الوجودي بحسم هذا الأمر بسرعة وقبل فوات الأوان.
وللتدليل على دقة حسابات الروس، علينا أن نراقب بعناية ما قالوه حول أهداف هذه العملية.
فمن حيث المبدأ هم عرفوا أن الغرب ليس بوسعه المغامرة بالتدخل المباشر في هذه الحرب، وهذا العامل هو عامل حاسم بالتحكم بسير العمليات وعمقها وتوقيتها وتحديد أهدافها ونتائجها.
والروس عرفوا تماماً أن الغرب كان قد باع أوكرانيا سلفاً بثمنٍ بخسٍ للغاية، وأن كل أسلحة الغرب ليس بمقدورها تغيير معادلة هذه الحرب، لأن روسيا هي التي بدأتها، وهي التي ستحدد نهايتها. فماذا تفعل أوكرانيا، أو ماذا باستطاعتها أن تفعل إذا قرر الروس أن ينسحبوا إلى الحدود الإدارية للدونباس بعد أن يكونوا تركوا خلفهم دولة فاشلة، دون جيش حقيقي، ودون فاشيين وممنوعة من التسلح وممنوع عليها الانضمام إلى أي أحلاف غربية؟
وماذا بوسع أعوان الغرب أن يفعلوا طالما أن مطالبهم باتت أن تلمح روسيا إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه مقابل تفكير أوكرانيا جدياً بإيجاد مخرج لمسألة حلف «الناتو»؟
أما الغرب الذي خدع أوكرانيا وأوقعها في هذا المأزق الكبير، فماذا بوسعه أن يفعل سوى أن يجيّش آلته الإعلامية ضد روسيا، ويستكمل استراتيجية في سيل العقوبات على روسيا.
ليس هذا فقط، فهل سيقبل الغرب أصلاً أن توافق القيادة الأوكرانية على شروط روسيا أو حتى نسخة مخففة عنها؟
وبماذا سيفوز الغرب إذا انتهت العقوبات كشرط لقبول روسيا بحلول وسط، أو بمساومة لا تلغي أو تنتقص من جوهر المطالب الروسية؟
هل يقبل الغرب أن يخرج «مهزوماً» من هذه الأزمة حفاظاً على هذه القيادة الساذجة؟
هذه الحرب محسوبة بدقة من قبل روسيا، ومن قبل الغرب، أيضاً، وهي ليست سوى ساحة للتطاحن بين الغرب كله وروسيا، وفي هذا وحده تكمن حكمة كبيرة، هذا دون أن يدخل أحفاد العمّ ماو على خط الهجوم، لأن الصين تنتظر بهدوء ورويّة لتدخل في الوقت المناسب، وبالطريقة التي تناسبها وتناسب الحرب الناعمة التي تتقنها.
لا يوجد خديعة ولا استدراج ولا أفخاخ سوى تلك التي نصبها الغرب الجشع لقادة أوكرانيا العباقرة!
في المقال القادم سنشرح أو سنحاول قصة العقوبات من ألفها إلى يائها.