لسنا بحاجة إلى سرد كثير من الشواهد والأدلة على عنصرية الغرب، وتحديدا دول ومجتمعات أوروبا، ومعها الفئات المهيمنة في شمال أميركا، تجاه العرب والمسلمين والأفارقة، وحتى مع فئات أخرى مثل الأسيويين في شرق وجنوب آسيا، فنحن نعرف هذه العنصرية وقد لمسناها في السلوك السياسي مع قضايانا، وفي التعامل الفردي معنا، وحتى في مجالات الأدب والفن بما فيها السينما حيث صورة العربي النمطية لا تخرج عن كونه إرهابيا مجرما ومخادعا، أو ثريا غبيا وخليعا، وتتسرب هذه الصورة الغربية عن العرب والمسلمين حتى إلى مجالات العلوم الإنسانية. ما فعلته الحرب على أوكرانيا وطريقة التعامل مع اللاجئين الفارّين من هذا البلد، والتصريحات العنصرية التي تطعن في آدميتنا ومدى تحضّرنا التي صدرت عن مراسلين وإعلاميين مشهورين وحتى عن مسؤولين حكوميين كبار، ثم التمييز في معاملة اللاجئين بحسب لونهم ودينهم وأصولهم العرقية والجغرافية، كلها ظواهر قائمة ومتأصّلة لم تفعل الحرب سوى الكشف عنها وتظهيرها.

ولا شك أن هذه المواقف على كثرتها وتكرارها ليست مجرد مواقف عفوية لأفراد محدودي الاطلاع والمعرفة، بل هي انعكاس لثقافات عميقة وراسخة تستند إلى التاريخ الاستعماري وما كرّسته نظريات التفوق العرقي التي رافقت الاستعمار ومهدت له وبررت جرائمه لاحقا، ثم أعيد إنتاجها عبر أشكال جديدة من السلوك السياسي والثقافي والنظريات المعرفية.

 وليس من المفيد بتاتا أن نحاول إقناع الغرب، والدوائر العنصرية تحديدا، بأن بلادنا المشرقية هي مهد الحضارات الإنسانية، ومنها انطلقت الديانات والرسالات السماوية التي يؤمن بها أهل الغرب أنفسهم، وأن بين ظهرانينا مبدعين وعلماء وفنانين وعباقرة، وبيننا أناس شقر وبيض وسمر، فيهم مسيحيون ومسلمون، يساريون ويمينيون، أصوليون وعلمانيون، وحتى أن لدينا عنصريين وشوفينيين تماما مثلما لديهم، لا فائدة من هذه المحاولات لأنها معروفة أولا، كما أنها تمثل ابتلاعا للطُعم العنصري إياه، ووقوع في المصيدة التي تفترض أن معايير الغرب تمثل المسطرة التي ينبغي لكل البشر أن يقيسوا الأمور وفقا لها.

علينا أن ندرك أن جزءا كبيرا من هذه المواقف العنصرية هي نتاج لسياقات طويلة من التطور غير المتكافىء والعلاقات المختلة بين الشرق والغرب، وبين دول الشمال الصناعي الرأسمالي المتطور، ودول الجنوب الذي تحرر من نير الاستعمار، فأدخلته نخبه الحاكمة بعد الاستقلال في أشكال جديدة من الاستعمار والتبعية والارتهان للأجنبي وتقسيماته للنظام الدولي.

وهكذا فإن جزءا لا يستهان به من المسؤولية عن تفشي العنصرية في الغرب يعود للطريقة التي يقدم بها الشرق نفسه، وتكاد الصورة أن تكون هي نفسها في معظم دول العالم الثالث بما فيها الدول العربية والإسلامية: دول تابعة وخاضعة للأجنبي، وفاشلة في تحقيق التنمية وبناء دولة المواطنة والحريات والحقوق والواجبات المتساوية، وأنظمة قمعية مستبدة وفاسدة، ومجتمعات طاردة لأبنائها ومبدعيها، إلى جانب الفشل في بناء أنظمة سياسية مستقرة ومقبولة من شعوبها ما انتج سلسلة من الحروب الأهلية والدموية التي ساهمت في انتكاس هذه المجتمعات وارتداد قطاعات واسعة من مواطنيها إلى الهويات الجزئية الطائفية والقبلية والعرقية والجهوية التي سبقت تبلور هويتها الوطنية الجامعة.

 وسط هذه الأحوال البائسة تكرست صورة "الدولة الريعية" التي تحتكر فيها النخب الحاكمة موارد الدولة وتسيطر على طريقة توزيعها، فتبدو الخدمات التي تقدمها الدولة أشبه بمكرمات ومنّة يمُنّ بها الحاكم على رعاياه نظير طاعتهم. وهكذا ضاقت بلداننا بأبنائها وبناتها، إلى الدرجة التي أصبحت فيها النظم الحاكمة تنظر إلى المواطنين والسكان باعتبارهم "عبئا" على الدولة، وليسوا أصحاب الحق الأصيل في أوطانهم، ومصادر متجددة للعمل والعطاء والإنتاج، فصارت بلادنا تُصدّر اللاجئين والمهاجرين إلى جوانب المواد الخام الأولية،  وصارت الهجرة إلى الغرب حلما يراود مئات الملايين من المحرومين من أبسط حقوقهم في أوطانهم إلى الدرجة التي يغامر بها كثير من هؤلاء بحياتهم فيركبون دروب الخطر وقوارب الموت أملا في الوصول إلى العالم الذي يحترم الحد الأدنى من إنسانيتهم.

أي دراسة منصفة لعلاقات دول الشمال بالجنوب لا يمكن لها أن تعفي دول الشمال المستعمِر من مسؤولياتها التاريخية، القانونية والأخلاقية والسياسية، في نهب ثروات البلدان المستعمَرة وتحطيم مجتمعاتها واقتصاداتها، وربطها بقيود مشددة من التبعية والقوانين الدولية التي تبقيها محرومة من التنمية والتكنولوجيا، ومتخصصة في إنتاج وتصدير المواد الأولية، وتبقي أسواقها مستباحة لمنتجات المستعمِر القديم. ولكن وفي نفس الوقت لا يمكن إعفاء النخب الحاكمة التي تولّت السلطة في بلادنا العربية والإسلامية بعد الاستقلال من مسؤولياتها في إعادة إنتاج الفقر والتخلف، والفشل في تحقيق التنمية، لأن هذه النخب ببساطة فضّلت الاهتمام بمصالحها الطبقية والفئوية الضيقة على حساب مصالح شعوبها، وانشغل حكامها ببناء ثرواتهم الشخصية، وتدبير الطرق "الدستورية"المناسبة لتوريث الحكم لأبنائهم، وتسخير موارد بلدانهم لبناء أجهزة أمنية قمعية بدل الاهتمام بالتعليم والصحة والبنى التحتية التي تفيد شعوبهم وأوطانهم.

ثمة أمر آخر لا بد من التنويه له: وهو أن من واجبنا، قبل انتقاد عنصرية الغرب تجاهنا، النظر في مسلكياتنا وخطابنا وثقافتنا السائدة، وهل تنطوي على قيم ومفاهيم وممارسات عنصرية تجاه بعضنا البعض أو تجاه غيرنا من البشر أم لا، وهل توجد لدينا أية أشكال ومظاهر للتمييز بين المواطنين بحسب لونهم أو دينهم أو جنسهم أو الجهة التي ينحدرون منها أو اي معيار آخر، ليس من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة المحرجة، فبعض الدول العربية تميّز بشكل قانوني بين مواطن وآخر، ومعظمها يميّز بشكل فعلي دون الاستناد للقانون، ومن المؤكد أن نجاحنا في استئصال العنصرية من مجتمعاتنا وثقافتنا يؤهلنا اكثر لمجابهتها بشكل ناجع على المستوى العالمي، والأهم بالطبع هو السعي لكي يجد المواطن العربي والمسلم كرامته في بلده لا أن يبحث عنها خارج وطنه.