في الحالتين اللتين تغيّر فيهما شكل العالم في القرن العشرين كان العرب ضحية التغيير بامتياز. النتيجة كانت أن على العرب أن يدفعوا ثمن ما يحدث في العالم. بالطبع الإشارة هنا إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين. كان العالم يتغير وكانت الدول تتقاتل، وفي المحصلة تصالح العالم المتقاتل ودفع العرب ثمن هذا الاقتتال، ليس لأنهم كانوا طرفاً في تلك الحروب، وليس لأنهم لم يتبنوا الموقف الصحيح، بل لأن الأقل فاعلية هم الأكثر عرضة للتأثير كما يقول المنطق. وعليه فقد نتجت عن الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية تحولات كبرى كان أهمها ما أصاب المنطقة العربية.
في الحرب العالمية الأولى ربحت بريطانيا وفرنسا الحرب، واقتسمتا الدول العربية فيما بينهما. وللدقة قامتا برسم حدود تلك الدول بما يتوافق مع رؤيتهما لطبيعة المنطقة في المستقبل. ما بات يعرف باتفاق سايكس بيكو حدد معالم العالم العربي الذي لم يعد عالماً، بل صار دولاً ستتناحر فيما بينها لاحقاً، إما لخلافات حدودية صنعها الاستعمار، أو لمصالح وهمية تم تعظيمها في عقول قادتها. انتهت الحرب التي لم يكن العرب طرفاً فيها بتمزيق الجسد العربي واقتسامه بين لندن وباريس، مع ترك روما تتحكم في ليبيا. وسيظل المشهد الذي رسمه الرجلان البريطاني والفرنسي يحكم المنطقة حتى اللحظة دون أي بوادر لتغييره، بل بالعمل الدؤوب على تثبيته.
النتيجة الأخرى التي سترتبط بمصير العرب كانت وعد بلفور المشؤوم الذي أطلقته بريطانيا، والذي وعدت علانية من خلاله بالعمل على إقامة وطن لليهود في فلسطين. أيضاً الوعد لم يُلاقِ إلا معارضة من قبل الشعب الفلسطيني الذي أدرك منذ البداية مخاطر تحقيقه، وما سيترتب عليه من تهجير للفلسطينيين من أرضهم وسرقتها للغير. أما عربياً، فإن القوى العربية لم يؤثر الوعد بأي شيء في علاقتها ببريطانيا. وربما على العكس فقد تعمقت علاقات الكثير من القوى في العالم العربي مع لندن، وترك الفلسطينيون وحيدين. وربما كانت تجربة ثورة عام 1936 دليلاً جلياً كيف كان يتم توظيف العرب من أجل قمع التطلعات الوطنية للفلسطينيين.
في الحرب العالمية الثانية، بات محققاً أن تحقيق وعد بلفور يسير على قدم وساق، وأن الأمر قضية وقت. قتل هتلر النازي ما قتل من معارضيه السياسيين ومن اليهود ومن الغجر ومن خصوم متعددين، وكان يجب توظيف مذابحه البربرية ضد اليهود بالمزيد من الترويج لضرورة أن يتم بناء وطن لليهود في فلسطين. لم يقم العرب ولا الفلسطينيون بقتل اليهود في أوروبا، ولم يكونوا طرفاً في أي صراع بالقارة العجوز، بل ربما كانت مواقفهم أكثر اتزاناً من القوى المتصارعة، لكن كان عليهم أن يدفعوا ثمن أخطاء الأوروبيين، وأن يدفعوا أيضاً فاتورة هتلر كما فاتورة تشرشل. لا علاقة لهم بالأمر، لكنه في نهاية المطاف انقلب عليهم. صحيح أن الكثير من الدول العربية تخلص من الاستعمار خلال الحرب العالمية الثانية أو بعدها، لكنها لم تستقل بالمعنى الحقيقي؛ إذ إن غرس إسرائيل في المنطقة كان يعني أن تظل المنطقة رهينة المصالح الغربية. وتعزز الأمر مع تصدّر واشنطن لميزان القوى في العالم، وتحالفها الوثيق مع الدولة الجديدة التي بات وجودها والحفاظ عليها جزءاً من المصالح الأميركية والغربية في المنطقة العربية. في المحصلة، فإن أيّاً من الدول العربية لم تنجح في التحول لدولة الاقتصاد، وظلت جميع الدول تبرح مكانها: فإما هي دول ريعية (النفط أو المساعدات) أو دول تعاني ضعفاً اقتصادياً لا يمكن تجاوزه.
الحرب الباردة أيضاً تركت آثارها على المنطقة العربية. المزاج العام كان الوقوف إلى جانب موسكو حتى نهاية عقد السبعينيات، حين بدأ بعض الانقلاب العربي والتوجه إلى واشنطن. أنا أشير هنا إلى الدول الكبرى المقررة في الشأن العربي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وسيتعزز الأمر مع تصاعد قوة دول النفط في الثمانينيات وتأثيرها على بقية الدول العربية. لم يكن العرب حلفاً، ولا هم نجحوا في تشكيل منظومة عربية خاصة تعتمد على مصالح المنطقة الحيوية، بل إن الحرب الباردة ساهمت في تعزيز الشقاق العربي العربي، وصارت ثمة حالات عربية متعددة. ومع الوقت ومع تنامي نفوذ واشنطن في الكثير من الدول، صار هناك تباين عربي حتى في الموقف من قضية العرب الأولى، أي القضية الفلسطينية.
يقود هذا السرد التحليلي إلى السؤال حول مكانة العرب في المرحلة المقبلة، في حال حدثت تحولات كبرى في العلاقات الدولية؛ عقب الحرب الروسية الأوكرانية التي تخوضها أوكرانيا بالوكالة عن الغرب. المؤكد أنه يصعب التكهن بمآلات الحرب، كما يصعب التكهن بوضع المنطقة العربية بعد تلك الحرب، سيما أن الدول العربية ليست طرفاً ولم تتخذ موقفاً محدداً. صحيح أن بعض الدول لا يخفي دعمه لهذا الطرف أو ذاك، لكن دون أن يكون فاعلاً في المواقف الدولية. هذا سينعكس بالطبع على الحالة العربية.
ليس المهم كيف يتطور العالم، المهم كيف نتطور نحن، وما موقعنا من هذا التطور. وقد تصبح واحدة من أقرب الدول تاريخياً صداقة للمنطقة العربية قوة عظمى، لكن هذا لا يعنى أنها ستظل حليفة للعرب؛ لأن الشيء الوحيد الذي يظل ثابتاً هو المصالح. وما لم يتم تطوير أجندة مصالح حقيقية، فإن العرب سيظلون مثل الألتراس يصفقون فرحاً بنتائج المباراة أو يصابون بخيبة أمل منها، وفي الحالتين هم ليسوا أكثر من متفرجين حتى لو كانوا متحمسين.