لم يكن من السهل على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتخاذ قرار غزو أوكرانيا في ضوء الحرب الباردة التي تشهدها موسكو مع واشنطن منذ سنوات، وفي ظل تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب تفشي فيروس "كورونا" الذي أعاق التنمية في الكثير من الدول المتقدمة والنامية.

قرار بوتين غزو أوكرانيا خطط له منذ العام 2014 الذي شهد ثورة "الحرية والكرامة" التي أطاحت بالرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، إثر عرقلته توقيع اتفاقية شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي. موسكو حينها أدركت أن كييف تضيع من قبضتها وتتجه شيئاً فشيئاً إلى الغرب الأوروبي.

في ذلك الوقت لم تكن موسكو جاهزة لغزو أوكرانيا لاعتبارات تتعلق بخطط دعم سورية في حربها ضد المعارضة هناك وتوسيع المواجهة مع الغرب في الملعب السوري.

فضلاً عن ذلك استعجال موسكو بناء وتطوير وتأهيل قدراتها العسكرية حتى تكون جاهزة لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية.

في مواجهة الثورة الأوكرانية العام 2014، سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود، وأجرت استفتاءً بين سكانها دعا لانضمامها إلى روسيا الاتحادية، ما استفز الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها في حلف الناتو الذين شجعوا أوكرانيا في المقابل على الانضمام إلى حلفهم العسكري.

هنا يكمن مربط الفرس، وهو أن روسيا كانت ترفض كل الوقت أي تمدد لحلف الناتو في شرق أوروبا، خصوصاً أن عشرات الدول الأوروبية التي كانت في السابق جزءاً من الاتحاد السوفييتي الذي تفكك قبل حوالى ثلاثين عاماً، انضمت تباعاً إلى حلف شمال الأطلسي.

مثّل هذا النفوذ المتوسع لحلف الناتو مخاطر شديدة على روسيا الصاعدة التي تحاول العودة إلى أمجاد الماضي، وأكثر من غذى هذا التوتر بين روسيا والاتحاد الأوروبي هو واشنطن التي استخدمت موسكو ورقة ضغط لتخويف أوروبا الغربية من توسع النفوذ الروسي ومساعي السيطرة على القارة العجوز.

في كل الأحوال ليس لأوروبا مصلحة في معاداة روسيا، خصوصاً أن هناك منافع اقتصادية متحققة بين هذه الدول، حيث تُصدّر موسكو نفطها وغازها للعديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا، غير أن الولايات المتحدة تجد في هذه الشراكة الاقتصادية مضرة لها وتأثيراً على قيادتها لحلف الناتو.

لكن ما الذي يجعل واشنطن تعمد إلى تخويف أوروبا بالدب الروسي ولماذا تمتنع من الدفاع عن أوكرانيا والاكتفاء بالتفرج وتقديم المساعدات الإنسانية والمادية؟

هذا السؤال مرتبط بتوجه الإدارة الأميركية نحو ترسيخ فكرة العدو، ما يعني عملياً زيادة الربط بينها وبين أوروبا ومد الأخيرة بالأسلحة الأميركية وخلاف ذلك.

المعنى أن الولايات المتحدة لا تريد التورط في حرب تقليدية تكلفها الكثير، ويبدو أنها كانت معنية بصب الزيت على النار في أوروبا لجهة الزج بموسكو في حرب استنزافية تضعفها وتنهك اقتصادها بسيل العقوبات السياسية والاقتصادية التي ارتبطت بالغزو الروسي.

ثم نعم، تريد واشنطن أن تظل المظلة التي تحمي أوروبا من الأعداء، بما يترتب على ذلك من تبعية سياسية واقتصادية أوروبية للولايات المتحدة، يشمل ذلك وجوداً أميركياً في المنطقة تحت عنوان حماية الأمن الأوروبي.

بالنسبة لروسيا وأمنها الاستراتيجي، هناك مصلحة من غزو أوكرانيا أكثر من ضرر العقوبات الدولية المفروضة عليها، فهي إما أن تغير الحكم في كييف وتأتي بحكومة موالية لها، أو أنها ستتوصل في النهاية إلى حل مع الرئيس الحالي زيلينسكي يضمن حيادها مع أوروبا الغربية.

بالطبع لبوتين أهداف من هذا الغزو العسكري، فهو أولاً يريد اقتطاع دونيتسك ولوغانسك من أوكرانيا واعتبارهما تحت المظلة الأمنية الروسية، وكذلك يريد ضمانات من الحكومة الحالية بعدم الانضمام إلى حلف الناتو وعدم احتشاد قوات أجنبية وأسلحة أميركية أو أوروبية على الحدود مع موسكو.

يصح القول إن أوكرانيا بمثابة الحديقة الخلفية لروسيا التي ترغب في نزع أظافرها وأسنانها، وفي بقائها إما موالية لموسكو أو على الحياد، ولن تتدخل الولايات المتحدة ولا أوروبا الغربية عسكرياً في هذا الصراع، وإنما ستحاولان الضغط الاقتصادي على موسكو لثنيها على مواصلة الغزو.

ويبدو أن الرئيس بوتين سيمضي في حشر أوكرانيا في الزاوية حتى لو كلفه ذلك وقف صادراته من النفط والغاز إلى أوروبا، ففي النهاية هذه معركة لا يمكنه فيها التوقف في الوسط أو عدم بلوغ أهدافه، وإلا فإنه سيضع سمعته وسمعة بلاده على المحك، لذلك من المرجح أن يصل بوتين إلى مراده.

في المقابل لن تخسر الولايات المتحدة الأميركية شيئاً، بالعكس هي الرابح من هذه الحرب، حتى لو بادر رئيسها جو بايدن إلى حظر واردات النفط الروسي، فهو يعلم أن مثل هذا القرار لن يؤثر كثيراً على الوضع الداخلي الأميركي، خصوصاً أن واشنطن هي الآن أكبر دولة منتجة للنفط في العالم وحجم وارداتها من النفط الروسي لا يتجاوز 8%.

الخاسر في هذه المعادلة هو الدول الأوروبية التي تستورد النفط والغاز من روسيا، إذ تحت الضغط الأميركي عليها أن تجد بدائل للتحول إلى الطاقة النظيفة والحصول على موارد الطاقة التقليدية من دول أخرى، في الوقت الذي تشهد فيه الأسواق العالمية ارتفاعاً كبيراً في أسعار النفط والغاز على خلفية الغزو الروسي.  

ومرةً أخرى تثبت هذه الحرب أن العالم مسرح للتجاذبات والمشاحنات السياسية بين الدول الكبرى، والدول الصغيرة مثل أوكرانيا وقبلها جورجيا وليبيا وسورية ليست سوى دمى يُحركها الكبار حسب مصالحهم الشخصية.