ليس يهودا غليك، ولا إيتمار بن غفير، بل مايك بينس، نائب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، هو من اقتحم الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة خليل الرحمن المحتلة، ليؤدي صلوات تلمودية هو وزوجته في المكان المقدس عند المسلمين أول من أمس، ربما سعياً منه لبدء حملة انتخابية تقوده الى البيت الأبيض بعد أكثر من عامين من الآن.
دلالة الاقتحام لا تعيد الى الأذهان فقط، ما كانت عليه إدارة البيت الأبيض السابقة، التي احتوت مسؤولين يهوداً متطرفين، كما لو كانوا مستوطنين، مثل ديفيد فريدمان السفير في عهد تلك الإدارة لدى إسرائيل، وصهر الرئيس جاريد كوشنير، عراب صفقة العصر سيئة الصيت والسمعة، ونائب الرئيس بنس، لكنها تثير غرابة ناجمة عن المفارقة التي ما زالت ترافق مواقف الغرب عموما والمواقف السياسية الرسمية الأميركية على نحو خاص، حين يتعلق الأمر بمعايير السياسة الدولية، فاقتحام بنس للحرم الإبراهيمي يأتي في ظل استنفار الغرب على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث فرضت أميركا والغرب الأوروبي كل ما يخطر على بالهم من عقوبات بحق روسيا، لأنها اقتحمت الأرض الأوكرانية واحتلت أجزاء منها، منذ أسبوعين.
ولأن الدولة التي قامت بفعل احتلال أرض الغير هي روسيا، التي تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن، فإن أميركا والغرب لم ينجحا في إصدار قرار ضد عمليتها العسكرية من المجلس المذكور، ولم يطل بهم الأمر حتى سارعوا لاستصدار قرار من الجمعية العامة، وهذا حسن، بل الجيد في الأمر أن يتداعي الغرب «الديموقراطي» للوقوف في وجه من يحتل أرض الغير، وضد المعتدي، كما تجنب الناتو حتى الآن الدخول المباشر كطرف في الحرب، باستخدام قوته العسكرية ضد الجيش الروسي الذي يقتحم هذه الأيام الأرض الأوكرانية، لكنه أعلن خصومته السياسية مع روسيا، ولو كان الحديث عن دولة غير روسيا، مثل العراق مثلاً، كما فعل من قبل ثلاثة عقود، لما تردد في إرسال قواته العسكرية لأوكرانيا والدخول في حرب مع المحتلين، لكنه مارس الضغط السياسي وكذلك فرض العقوبات الاقتصادية بشكل غير مسبوق، بما يعني أنه لا يعدم الوسيلة حين يريد ذلك.
المفارقة هنا تتأتى حين نعقد المقارنة بين الموقف الغربي من احتلال أراض اوكرانية، مع الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، وأراض عربية اخرى، كما فعل النائب في البرلمان الإيرلندي، ريتشارد بويد باريت، الذي اتهم بلاده بالكيل بمكيالين من حيث هي فرضت العقوبات على روسيا التي احتلت حتى الآن أجزاء من أرض أوكرانيا ولمدة أيام، ولم تفعل الشيء ذاته تجاه إسرائيل التي تحتل كامل أرض دولة فلسطين منذ 55 عاماً.
ما زال ممكناً للغرب أن يرسل قواته لطرد الاحتلال الإسرائيلي من أرض دولة فلسطين التي تحتلها، وما زال ممكناً له، بل يتوجب عليه بوازع الدافع الأخلاقي ذاته أن يفرض العقوبات الاقتصادية ذاتها على إسرائيل كدولة تحتل أرض الغير، وذلك انسجاماً مع قرارات الأمم المتحدة التي تعد بالعشرات والتي تدين ذلك الاحتلال، لكن الغرب لا يفعل شيئاً من هذا القبيل، بل إنه يلاحق المؤسسات الدولية التي تحاول أن تمنع التعامل التجاري مع ما تنتجه المستوطنات القائمة على الأرض المحتلة، ويعتبرها القانون الدولي وحتى تعتبرها كثير من دول الغرب نفسه غير شرعية، وتعيق التوصل للحل وتمنع تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
بل إن أميركا تمارس كل الضغوط الممكنة، وهي هائلة، بما لديها من إمكانيات على السلطة الفلسطينية، حين تتوجه للمحاكم الدولية، بهدف ملاحقة قادة الاحتلال الإسرائيلي، مما هم متهمون به من ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهذا يعني بكل بساطة، بأن الغرب كاذب ومنافق، ولا يتمتع بالمصداقية الأخلاقية، فكل دوافعه فيما يخص الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ذات طابع سياسي، لا تقيم وزنا للقانون الدولي، بقدر ما تستخدمه لتحقيق مصالحها الخاصة، والتي جوهرها إعادة السيطرة على العالم، بالإبقاء على النظام العالمي أحادي القطب.
وقد سبق لأميركا والغرب الأوروبي معها أن قادا حرباً ثلاثينية ضد العراق قبل ثلاثة عقود، بهدف تدشين النظام العالمي أحادي القطب، وبحجة احتلال العراق للكويت، وحينها استغربت الدنيا كلها موقفها المتناقض حين يتم عقد المقارنة مع احتلال إسرائيل لأرض فلسطين، مما دفع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، الذي قاد تلك الحرب على العراق، والذي كان يسعى لولاية ثانية، إلى أن يعقد مؤتمر مدريد، للتحلل من عبء تلك المقارنة، حيث اضطر حينها لاستخدام بعض من الضغط الاقتصادي على إسرائيل عبر التهديد في حينه بتعليق ضمانات قروض بقيمة 10 مليار دولار لإسرائيل، فجرّ يومها إسحق شامير رئيس حكومة اليمين الليكودي في عام 1991 الى مدريد عنوة ورغم أنفه.
أي أن ممارسة قليل من الضغط الاقتصادي وربما بعض الضغط السياسي، من قبل أميركا والغرب الأوروبي على إسرائيل، يمكنه أن يؤدي الى إنهاء احتلالها الذي ما زال يحرم الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، وفي إقامة دولته المستقلة، وما زال يمنع إسرائيل من أن تتحول الى دولة طبيعية في المنطقة فيبقي على صفتها العدوانية، وعلى مضمونها العسكري ويبقي على اليمين والتطرف في سدة الحكم فيها، بل ويجعل من محاولاتها الادعاء بكونها دولة ديموقراطية، أمراً مضحكاً، وصفة غير حقيقية.
هل يمكن لنا القول أو التوقع بان يعيد التاريخ نفسه، فما أن تحط الحرب بين روسيا وأوكرانيا رحالها، وما أن تهدأ الأمور، حتى تقوم أميركا والغرب معها بتعديل وجهة البوصلة، وتصويبها نحو أسوأ احتلال ما زال بقاؤه يزعج العالم بأسره، أي نحو الاحتلال الإسرائيلي، فتفتح الباب لحل سياسي يفضي الى السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، بما يحقق حياة أفضل لكل شعوبه، وفي مقدمتها الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي، الشعب الفلسطيني التواق للحرية والاستقلال، والشعب الإسرائيلي الذي من مصلحته التخلص من التطرف والغيتو والعيش في دولة طبيعية مدنية ديمقراطية حقة ؟
أم أن أميركا والغرب سيهزان أكتافهما، وسيستمران في ادعاء الأخلاق في ممارساتهم السياسية، ولا يريان سوى طريق التفوق والسيطرة على الآخرين، والتعامل مع الشعوب في الشرق والجنوب، بعين ضيقة، لا تراها سوى خاضعة ومستعمرة، وما عليها إلا أن تقدم ما لديها من ثروات طبيعية للغرب السيد، بما يعزز بقاء الغرب أسيراً لنزعاته التي لا تخلو من عنصرية التمييز بين دولة وأخرى، وبين شعب وآخر؟!