بمناسبة الذكرى العشرين لعملية «السور الواقي»، والتي تميزت باقتحام المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، خلافاً لاتفاقية أوسلو، هدّد رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي باجتياح مدن قطاع غزة، على غرار ما فعل جيش الاحتلال بمدن الضفة الغربية قبل عشرين عاماً، فيما أكد أمير كوهين، قائد ما يسمى حرس الحدود الإسرائيلي، أن ما حدث في أيار الماضي، في إشارة إلى آخر مواجهة حدثت بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وقطاع غزة، يمكن أن يحدث مرة أخرى، بل إن «حارس الأسوار 2»، وفق تعبير كوهين، ستكون أكثر عنفاً.
بصرف النظر عمّا تنم عنه هذه التصريحات للقادة العسكريين الإسرائيليين من غطرسة، إلا أن ما يمكن قوله إزاءها: إنه كلام في الهواء، فصحيح أن إسرائيل لديها قوة عسكرية مهولة، لكنها تحسب خطواتها العسكرية بدقة، ليس ارتباطاً بميزان القوى الميداني وحسب، بل وبالظروف السياسية الإقليمية والدولية، وهي لن تجرؤ على الإقدام على عملية عسكرية على غرار السور الواقي، وليس كمحاكاة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، على الأقل في المدى المنظور، وبالتحديد هذه الأيام، ولا يعود ذلك لقوة الردع في قطاع غزة، ولا خشية من أن تتدخل إيران أو حتى «حزب الله» بتوسيع رقعة الحرب، وفيما مضى من مواجهات عسكرية على جبهة غزة دليل على ما نقول، وليس لأنها تفكر في اليوم التالي للاجتياح الذي قد ينجم عنه انتهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، ولكن لأن هناك حرباً بين روسيا وأوكرانيا.
فصحيح أن العالم كله مشغول بتلك الحرب التي تحدث شرق أوروبا، ما يعني انخفاض مستوى الاهتمام بأي حرب أخرى، لكن من شأن ذلك أن يضع الغرب، ومنه أميركا حليفة إسرائيل، في حرج؛ لأن الرأي العام العالمي سيطالبها باتخاذ موقف ضد إسرائيل مشابه لما فعلته تجاه روسيا.
والحقيقة أن إدارة جو بايدن واجهت مشكلة إزاء عملية «حارس الأسوار» العام الماضي، وضغطت على إسرائيل أياماً لاختصار أمد الحرب لأقصر وقت ممكن، حتى تتفرغ لمعالجة ملف إيران النووي، والذي ما زال رغم التقدم فيه عالقاً؛ إثر الربط الروسي وإلى حد ما الإيراني بين العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، وبين العلاقات الاقتصادية والتجارية بين كل من روسيا وإيران.
ولن نعيد هنا التأكيد على أن الموقف الأميركي خصوصاً، والغربي عموماً، تجاه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قد أعاد للأذهان حروب الوساطة بين الاتحاد السوفياتي الذي ورثته روسيا وبين الولايات المتحدة، حيث كان كل طرف منهما حين يتورط في حرب إقليمية يجد الطرف الآخر طرفاً غير مباشر ضده، وقد حدث هذا حين كانت القوات الأميركية تحارب في فيتنام، وكانت الصين والاتحاد السوفياتي يقدمان السلاح والدعم السياسي للفيتناميين، فيما كانت أميركا تدعم القوات الأفغانية التي حاربت الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان.
فيما تواجه السلاحان الأميركي والسوفياتي في كل حروب الشرق الأوسط بين إسرائيل والعرب، ما يعني أن أميركا - حتى إن لم نبالغ بالقول: إنها هي التي قامت بدفع الأمور لدرجة الحرب في أوكرانيا - فإن رد فعلها المتمثل بحجم فرض العقوبات، والتي لم يتوفر لها الغطاء الدولي، عبر مجلس الأمن، على روسيا، والذي وصل إلى درجة التدخل بمد أوكرانيا بالسلاح والمقاتلين الدوليين، يؤكد على أنها طرف في الحرب.
كذلك لن نكرر ما سبق لنا وقلناه عمّا تهدف إليه واشنطن من تحقيق أهداف سياسية واقتصادية جراء الحرب داخل حدود أوكرانيا، لكننا نريد أن نقول: إن الأهداف الأميركية لن تتحقق، بل إن حرب بايدن في أوكرانيا ستواجه بالهزيمة ولن تتحقق، على الأقل بالكامل، وإذا كانت واشنطن قد تحقق بعض أهدافها المتمثلة في كبح نزعة التباعد الأوروبي معها، إلا أنها لن تنجح في إعادة روسيا إلى الوراء، أو إلى إسقاط حكم فلاديمير بوتين، ويمكننا أن نقول: إن ملامح الحرب حتى اللحظة تشير إلى أن بايدن خسر الحرب بدرجة كبيرة.
قبل بايدن، دخل سلفه دونالد ترامب في مواجهة مع كوريا الشمالية، وحدد هدفاً من وراء التصعيد معها، وذلك مجرد دخوله البيت الأبيض، لكنه سرعان ما خرج من الأمر بخفَي حنين، وهذا ما سيحدث مع بايدن، الذي رغم أنه تفرغ، بعد خروج قواته الفوضوي من أفغانستان، وبعد أن سارع إلى النزول عند الشروط الإيرانية فيما يخص ملفها النووي، ها هو يواجه إصراراً روسياً على تحقيق أهداف موسكو من عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
إن متابعة التفاوض بين الوفدين الروسي والأوكراني في بيلاروسيا، وإصرار الروس على مطالبهم، بل وعدم التزحزح حتى فيما يخص مكان التفاوض، حيث لم ينجح الأوكرانيون في نقله لا إلى تركيا ولا إلى إسرائيل، ولا لغيرهما، كذلك التقدم الروسي على الأرض، والذي حقق حتى الآن إبعاد الجيش الأوكراني عن القرم ودونباس بتوسيع حدودهما على حساب المدن الأوكرانية، كذلك حصار كل من خاركوف وكييف، وتدمير معظم البنية التحية العسكرية الأوكرانية، كل ذلك يعني أن الروس لن يدخلوا في حرب استنزاف كما حدث معهم في أفغانستان من قبل، وأن ما يتم تداوله من حديث عن تهريب الرئيس الأوكراني، ومنحه اللجوء في لندن أو غيرها، يعني أن الفصل الأخير من الحرب المتمثل بإسقاط نظام ما تسميه موسكو القوميين الأوكرانيين، أي نظام ما بعد العام 2014، في طريقه للتحقق.
ولقد لخص السفير المصري السابق في كييف، أسامة توفيق بدر، الحالة العسكرية حتى الآن، في مقال له قبل أيام بالقول: إن العملية الروسية قد شارفت على الانتهاء، حيث تمت السيطرة على المياه العذبة للقرم التي كانت أوكرانيا قد قطعتها عن الإقليم منذ عام، وذلك باستيلاء الروس على مدينة خيرسون مصدر مياه القرم، كذلك تحقيق تواصل جغرافي بين القرم وبين جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين وذلك بعد الاستيلاء على مدينة ماريوبول.
أما السيطرة على مدينة أوديسا، فيعني تحويل أوكرانيا إلى دولة داخلية بلا منافذ حرة، ذلك أن أوديسا هي الميناء الإستراتيجي لأوكرانيا على البحر الأسود، وكل هذه المدن التي استولى عليها الروس تقع شرق نهر دنيبرو الذي يقسم أوكرانيا بين شرق وغرب، وكأن ذلك يعيد للأذهان ما كانت عليه ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حين تم تقسيمها بين شرقية كانت ضمن المعسكر الشرقي، وغربية كانت تحت الحماية الغربية الأميركية.
التفاوض بعد هذا الذي حدث على الأرض يتركز حول أوكرانيا الغربية، إن صح التعبير، بضمان حيادها، من خلال إقرار حكومتها بذلك، وربما عبر إسقاط رئيسها الموالي للغرب، هكذا يكون بايدن خاسراً للحرب، وبعد أدائه السيئ بالخروج من أفغانستان وبعد رضوخه للشروط الإيرانية لن يفوز بولاية ثانية، بل إن حزبه الديمقراطي سيخرج من البيت الأبيض في انتخابات الرئاسة القادمة، مع أن الأمر ما زال مبكراً للتنبؤ بنتيجته.