قُلنا في المقال السابق (فلسطين والنظام العالمي الجديد) إنّ هذا النظام آخذٌ بالتشكُّل والتبلور لا محالة، وإنّ الحرب القائمة في أوكرانيا هي محطة فاصلة، وحلقة خاصة وكبيرة في هذا المسار وفي هذا الإطار.
الوكيل الغربي لهذه الحرب، أي أوكرانيا خسرها سلفاً، والخطة الاستراتيجية للغرب في الإفشال الاستراتيجي لروسيا لم يعد بمقدورها أن تنجح، منذ أن «استنكف» هذا الغرب عن الدخول المباشر لمواجهة روسيا على الأرض الأوكرانية، ومنذ أن «تحوّل» الدعم الغربي لأوكرانيا إلى حربٍ أخرى، خارج أوكرانيا، هناك على جبهة الحرب الاقتصادية، وعلى جبهة هستيريا الحرب الإعلامية، ومنذ أن «تُرك» لأوكرانيا أن تقوم بدور «الصمود والمقاومة» أمام آلة حرب متفوقة وجبّارة، ولم يستخدم منها حتى الآن إلّا القدر المناسب، وهو قدرٌ قليل ومتواضع بالمقارنة مع إمكانيات الحرب الروسية.
بهذا المعنى فإنّ الغرب يُدرك ويعرف أن الدعم العسكري لأوكرانيا لن يؤدي سوى إلى محاولة إطالة هذه الحرب، وإلى المراهنة على «تحسين» شروط أوكرانيا ما أمكن، وبقدر ما تتيحه «الظروف»، لأن المراهنة الرئيسة للغرب هي على جبهة الحرب الاقتصادية، والعامل العسكري الأوكراني ليس أكثر من عاملٍ مساعدٍ وثانويٍّ وليس هو الأساس.
إذاً ليست الحرب ببعدها العسكري هي التي تحدد مبدأ وجود نظام عالمي جديد من عدمه.
لم يعد أحدٌ عاقل في الغرب نفسه يجادل بأن هذا النظام سيكون على جدول الأعمال، وأن هذا النظام سمته الأولى والأساسية هي الانتقال من عالم القطب الواحد إلى نظام جديد ثنائي القطبية، أو متعدد الأقطاب، وتلعب نتائج الحرب القائمة في أوكرانيا في درجة الاستقطاب فيه، كما تلعب، وستلعب إلى مراحل زمنية محددة في تموضعات محددة لقوى محددة في إطار الخارطة الجيوسياسية، والجيواقتصادية، إضافةً إلى التوازنات الأمنية والعسكرية، وكافة منظومات ومظلات حماية هذه التوازنات.
سنكون على كل حال أمام دولة عملاقة اقتصادياً هي الصين، وتتعملق عسكرياً وتقنياً مدعومة من روسيا، ومن مجموعة كبيرة من دول في آسيا وإفريقيا، سواء في حلف واحد، أو في هيئة قطب خاص.
وسنكون أمام دولة عملاقة عسكرياً وهي روسيا، تمتلك كل مقومات التحول التدريجي إلى عملاقة اقتصادياً، وإلى دولة تتوفر فيها مقومات أعلى للتحول إلى دولة جبّارة على الصعيد التقني نظراً لتقنيات عسكرية متطورة لديها، يمكن أن تتحول إلى تقنيات مدنية وصناعية عند درجة معينة من توفر الموارد الاقتصادية الضرورية لاستغلال تفوق روسيا في ميزان الطاقة وميزان المواد الأولية من الثروات المعدنية، مدعومة من الصين.
وسنكون أمام الولايات المتحدة، وهي الدولة الأكبر اقتصادياً، والأقوى عسكرياً، والأكثر تفوقاً ـ حتى الآن ـ تقنياً، ولكنها غير قادرة ـ حتى الآن ـ على الإبقاء على هذا التفوق إلّا لعقد واحدٍ فقط، على أبعد التقديرات، بما فيها التقديرات الغربية والأميركية نفسها.
وسنكون أمام اتحاد أوروبي فشل في التحول إلى قطب متحرر من التبعية العسكرية للولايات المتحدة، وفشل في المحافظة على تماسكه المؤسسي بعد خروج بريطانيا، وفشل في تحقيق استقلال قراره السياسي حتى الآن، بالرغم من امتلاكه لكافة المقومات التي تؤهله لذلك بما فيها الاقتصادية والتقنية، وحتى العسكرية، بالرغم من افتقاره للإمكانيات الكافية والمتكاملة على صعيد الطاقة والمعادن، وجزئياً على صعيد المنظومة الأمنية المطلوبة.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد بتشجيع من الولايات المتحدة أصبحنا أمام كتلة أنجلوسكسونية «صلبة» تتكون من أميركا وبريطانيا وأستراليا تتنافس في الواقع مع «تماسك» ألمانيا وفرنسا في الاتحاد الأوروبي، وإنهاء الدور المستقل لهذا الاتحاد.
وهناك طبعاً حلف آسيوي للولايات المتحدة ممثلاً باليابان وكوريا الجنوبية، لأن الغرب عليه أن يهزم روسيا والصين معاً أو تباعاً إذا أراد بقاء القطبية الأحادية.
الحرب ستقرر بعض هذه التموضعات، وستقرر كثيراً في مستقبل موقع روسيا في الخارطة العالمية، ولها تأثير كبير في منظومة الأمن الأوروبي، ولكنها ليست العنصر الحاسم ولا الأساسي في قيام النظام العالمي الجديد، لأن هذا النظام أكبر وأوسع وأشمل وأهم من النتائج الملموسة المباشرة لهذه الحرب.
أما دور الدول الصاعدة، أو حتى صيغة دول عدم الانحياز فلن يتمكن أحد من استشرافه سياسياً قبل «استقرار» حالة الأقطاب الرئيسة، علماً أن التفكير الاستراتيجي لدى معظم هذه الدول هو أنها لن تكون مع فكرة الحياد الإيجابي التي كان عليها موقف «عدم الانحياز»، وإنما النأي بالنفس عن الصراع المباشر والتجاذب المباشر، أي أنها لن تكون مع الشرق ضد الغرب، ولن تكون مع الغرب ضد الشرق، وهو موقف مختلف عن مفهوم الحياد الإيجابي.
مع تقلُّص الفجوة الاقتصادية والتقنية بين الأقطاب المكونة الرئيسة لنظام العالم الجديد يصبح الصراع ليس على هزيمة معسكر لمعسكر آخر، أو تقويض قوته العسكرية، وإنما إعادة ضبط هذا الصراع على أسس جديدة تحفظ التوازن في كل مرحلة جديدة.
الإقليم العربي ومن ضمنه فلسطين كان في المحصّلة الإقليم الذي دفع الثمن الأكبر للأحادية القطبية على مستوى الموارد والثروات، وعلى مستوى وحدة وسيادة الأراضي والدولة الوطنية، وعلى مستوى وحدة وتماسك المجتمعات، وعلى مستوى درجة التبعية، وعلى مستويات أخرى كثيرة مسّت الهويات الوطنية، والانقسامات الاجتماعية التي دمّرت إلى درجة كبيرة وخطيرة النسيج الوطني والاجتماعي في معظم دول الإقليم، أو أحدثت خلخلات كبيرة فيه.
وكان من نتيجة هذه الأحادية أن فرض الغرب رؤيته وسطوته على عموم الإقليم، حتى بات العرب في بعض المراحل يشترون عبوديتهم بأموالهم وثرواتهم وعلى حساب مستقبل دولهم وشعوبهم، ووصل مستوى انحدار الإقليم إلى مقايضة بقاء أنظمة أو بعض أنظمة الإقليم العربي بالتطبيع مع إسرائيل وصولاً إلى التحالف معها، والتغنّي والتفاخر، ناهيكم عن المجاهرة والإعلان عن هذا التحالف.
وفي الحالة الفلسطينية انتقلت الحالة الفلسطينية من مرحلة المراهنة على دعم الغرب لحل سياسي متوازن، إلى الارتهان لهذا الغرب في رؤاه، وفي المساعدات «السياسية» والاقتصادية لفلسطين.
ولم يتمكن هذا الغرب، ولا لمرةٍ واحدةٍ من ردع السياسة التوسعية والعنصرية الإسرائيلية، ولم يخرج الغرب عن سياسات الشجب والتنديد والاستنكار، حتى عندما كان تحدي إسرائيل لأبسط قواعد القانون الدولي، بل وعندما «شرّعت» إسرائيل رسمياً وفي إطار قوانين وقوانين أساس هذه التوسعية وهذه العنصرية، بالرغم من المرونة والتراجعات التي قدمتها قيادة المنظمة والسلطة.
حاولت القيادة الفلسطينية أن تستثمر في المواقف الأوروبية، وحققت بعض النجاحات المهمة، لكن أوروبا ليست مستقلة إلى درجة نجاح المراهنة، وحاولت التفاهم ـ بدعم عربي مرتهن لأميركا ـ مع الولايات المتحدة لكنها لم تجد سوى كلامٍ ليس له أي رصيد سياسي. وقاطعت أميركا هذه القيادة، وأغلقت مكتب المنظمة في واشنطن وحاربت الحقوق الوطنية في كل مؤسسات القانون الدولي، ودعمت إسرائيل في أكثر من 99% من القرارات، وقطعت التمويل عن «الأونروا»، وشرّعت لإسرائيل العنصرية وسياسات الاستيطان، واعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل لسببٍ واحدٍ ووحيدٍ وهو عدم الرضوخ الكامل، والتساوق الكامل والقبول التام بجوهر الحل الإسرائيلي، وحتى عندما عادت إلى الاتصال بالقيادة الفلسطينية، لم تتراجع عن جوهر كافة هذه السياسات الأميركية، وبقيت كل الادعاءات بالعدالة ومشروع «حل الدولتين»، وحتى «الإنعاش الاقتصادي» مجرد ادعاءات فارغة من أي مضمون، ولم تخرج عن إطار استبدال الحقوق الوطنية بالحلول الاقتصادية وتقليص الصراع.
وخضعت الحالة الفلسطينية لفترات ممتدة «لاستراتيجية المفاوضات»، ولم تتمكن من الإفلات طويلاً من هذه الاستراتيجية بالرغم من الطريق المسدود الذي وصلت إليه، وبالرغم من الفشل في فرض قواعد وشروط وأسس ومحددات جدية لهذه المفاوضات، إلى أن انتهت واقعياً إلى شروط اقتصادية، ومعيشية، تحولت بموجب النتائج التي تَرتَّبت عليها إلى (ارتهان) لها، والمناورة في هوامش جانبية منها.
لم تؤدّ النجاحات الدبلوماسية الفلسطينية إلى تغيرات حقيقية في مواقف الغرب من الصراع، والتغيرات في بعض القضايا لم ترتقِ إلى حدود ردع إسرائيل والتصدي لسياساتها، بل على الأغلب، هادن هذا الغرب دولة الاحتلال وتستّر على عدوانيتها وتوسعيتها وعنصريتها، أيضاً.
وفي ظروف داخلية متعثّرة، وانقسامات حادّة، وفي ظروف إقليمية وظّفها الغرب لممارسة كل الضغوط على الشعب الفلسطيني انتقل الوضع برمّته من حالة المراهنة إلى حالة الارتهان، بصرف النظر عن اعتراضٍ هنا وآخر هناك، و»تمرّدٍ» هنا ومهادنةٍ هناك.
صحيح أن للاصطفاف أو الانخراط، وحتى الانغماس الفلسطيني في إطار الاستراتيجية الغربية، والمنظومة العربية الموالية لهذه الاستراتيجية أسباباً «موضوعية»، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام العربي وتفكّكه، أيضاً، إلّا أن الخيارات الفلسطينية في هذا الاصطفاف والانخراط قد أسست موضوعياً، أيضاً، لمرحلة من الارتهان المرتبطة ليس فقط بالظرف الدولي والعربي والإقليمي المحيط، وإنما برؤى ومصالح واستراتيجيات أصبحت تشكل خطراً على الحقوق الوطنية، وأخطاراً محدقة بكيانه الوطني وهويته وصموده، وقدرته على المجابهة.
يعطينا النظام الدولي الجديد فرصةً قد تكون نادرة للعودة عن (الارتهان) دون إلغاء المراهنة، ويعطي للمراهنة نفسها بعداً جديداً لأنها ستكون مدعومة بالتعددية القطبية، وقد يؤدي الانتقال الجديد من الارتهان إلى المراهنة إلى تحولات كبيرة، خصوصاً أن الغرب نفسه سيكون «مجبراً» على مراجعة سياساته التي وصلت إلى الفضائحية السافرة في ازدواجية المعايير، وإلى حاجة الغرب لمنع اصطفافنا السريع أو التام تحت هذا القطب أو ذاك من أقطاب العالم الجديد.
كما أن القطب الروسي، أو الصيني، أو كليهما معاً سيحرصان أشدّ الحرص ـ كما أرى ـ على محاولة الاستفادة والاستثمار في عدالة قضايا الشعوب، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني، التي تمثل المعيار الحقيقي والأهمّ للعدالة الدولية.
وحتى لو أن أوروبا استطاعت أن تشكل لنفسها قطباً جديداً في المستقبل، فإن العودة عن سياسة الارتهان ستعزز من الموقف الفلسطيني.
لكن هذا الانتقال بات مشروطاً ومحكوماً، ربما لا يقبل الجدل والشكّ، بتعافي ووحدة الحالة الوطنية، وبتصعيد الكفاح الوطني بكل مكونات الشعب ضد الاحتلال وضد العنصرية في معركةٍ واحدةٍ ومُوحَّدة.