هل تمثل عودة رئيس الوزراء البريطاني من الرياض خالي الوفاض ما هو جديد في اللحظة العربية؟ وهل يحمل رفض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان استقبال مكالمة الرئيس الأميركي ما يصب في نفس الاتجاه الذي يعكس ثقة جديدة بالنفس لم تعهدها المنطقة العربية لعقود عندما كان موظفاً صغيراً في سفارة أميركية يملي الموقف، وقد تجسد هذا مراراً في التاريخ العربي عندما تم وضع السياسة العربية وإمكانياتها وثرواتها في خدمة الغير.
خاضت الولايات المتحدة حروبها في المنطقة، وكان دور المنطقة العربية ينحصر في تسديد فواتير الدم لمغامراتها، وفي هذه الحرب كان السؤال أين العرب من هذه الحرب؟ وقد بدأ يظهر لأول مرة ما يبدو كأنه استجابة لنداء الجغرافيا التي تحمل على امتدادها كل تلك الإمكانيات الهائلة وقدرة الإدارة على استثمار ممكناتها في خدمة السياسة بعد أن كانت لعقود طويلة تجهل ما لديها وتنقصها الكفاءة لتحويل تلك الممكنات الى سياسة.
كان واضحاً حتى قبل الحرب أن أحد أطرافها البعيد جغرافياً والقريب تصادمياً هو الولايات المتحدة الأميركية مقابل الطرف الروسي. ووسط هذه الحرب يتخذ العرب موقفاً حيادياً بل وأبعد بزيارات لوزيري خارجية قطر والإمارات المتحدة إلى موسكو. ومع الموقف السعودي والاتصالات بين الرئيس المصري والروسي فمن يقرأ المسافة بين العواصم العربية وواشنطن هذه المرة لابد وأن يرى ما هو مختلف.
صحيح أن العرب وتحديداً دول الخليج تشعر بالخذلان من الولايات المتحدة، وصحيح أن الصراع بين دولتين بهذا الحجم يستدعي الوقوف على حافة الحياد، فروسيا قادرة على إيذاء دول الخليج فيما لو أعلنت موقفاً ضدها. وصحيح أن الموقف العربي قد لا يستمر طويلاً في صدام بهذا الحجم لا تقدر عليه الدول العربية طويلاً، ولكن الأهم أن هناك لحظة تمثلت لأول مرة بقول لا للولايات المتحدة الأميركية، ولأول مرة تبحث واشنطن عن وسيط لاقناع دولة عربية ليس لاتخاذ موقف ضد خصمها بل أقل من ذلك وهو رفع سقف إنتاج النفط.
الموقف العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص مريح لكل المراقبين العرب الذين طالبوا طويلاً بوضع الإمكانيات العربية في خدمة السياسة العربية، واتباع سياسة أكثر رصانة تجاه الآخرين، متحررةً من عقدة الخوف وانعدام الثقة التي سادت في المنطقة لعقود طويلة وزادت حدتها بعد حرب العراق الأولى، وهو ما يمكن وصفه ببداية فهم الجيل الجديد من الحكام في الخليج لواقع المنطقة وحجمها، في اللحظة التي يتم استثمارها يمكن أن تكون مؤثرة على الصعيد الدولي، وقد اتضح تأثيرها مع أول طلقة وأول نداء نفطي أميركي.
الحرب العالمية الثالثة هذه المرة ووفقاً لأدوات الحرب المدمرة اتخذت شكلاً كان الاقتصاد سلاحه الأبرز، وكل الساحات ميدان حربه بالعقوبات المتبادلة والمزاحمة في البنوك وخطوط التوريدات والإمكانيات. وهذا وفر للخليج مركز قوة باعتبار أن صحاريه تنام على الكميات الأكبر للنفط والغاز، ففي حرب الاقتصاد يمتلك العرب ما يضعونه على الطاولة، ليس كقطب دولي وقد يكون مبكراً على ذلك، ولكن كطرف مؤثر كانت سابقاً تنقصه الثقة بالنفس أو الخوف، أو لم يكن مدركاً لحجم إمكانياته، وإذا أدرك كان الشعور بالهزيمة والضعف يحولان دون استغلاله.
هل يقرأ محمد بن سلمان والخليج العربي التحولات الدولية وينتقلون خطوة للأمام؟ هذا مهم في السياق التاريخي لدول بدت متثاقلة لعقود، ووضعت نفسها بمحض إرادتها على هامش السياسة الدولية، بل وفي أفضل حالاتها كان في العلاقة نوع من التبعية السلبية والتي لا يمكن أن توصف بها السياسة العربية هذا الأسبوع من ناحية الموقف أو لناحية الزيارات المكوكية، ما يشي بكفاءة غابت طويلاً عن هذه المنطقة. فهل يحمل جيل القيادة الجديد نهجاً جديداً أم أن اللحظة التاريخية التي دفعت بهذا الاتجاه؟ في كل الظروف لا يمكن تجاهل واقع الصراع ومستجداته التي دفعت العرب لهذا الموقف، وفي كل الظروف ففي الصراعات الدولية هناك ما يطلق عليه اللحظة التاريخية والتي يعني التقاطها قدرة على إدارة السياسة.
إن استمرت السعودية على هذه السياسة فإنها تذهب لمعركة ليست بالسهلة تحتاج الى قدر كبير من الكفاءة لإدارتها، فالدخول في صدام مع الولايات المتحدة يقول عنه البعض أنه انتحار، صحيح أن هذا قيل في زمن كانت سطوة واشنطن على العواصم أقوى، وصحيح أن جناح النسر بدأ يصاب بالوهن ولكن ليس للدرجة التي يمكن تحديها الآن، لكن الأمير السعودي سيتوج نفسه كرجل قوي في الساحة العربية ومؤثر أكثر في سياساتها بعد أن تمكن من فرض نفسه في الداخل السعودي.
تلك تتطلب عدة عوامل أبرزها موقف خليجي وعربي موحد، وقد بدا كذلك حتى اللحظة كنوع من الانسجام بين الرياض وأبو ظبي والدوحة، وهي ثلاث عواصم مهمة مالياً وتشكل وزناً في الاقتصاد الدولي وفواعل رئيسية في حروب المال والاقتصاد، وبإمكانها تحقيق قدر من الاستثمارات السياسية إذا ما أجادت اللعب بأوراقها التي تمتلكها. وها هي تبدأ خطوتها الأولى بغض النظر عن الأسباب التي دفعتها لذلك، لكننا أمام لحظة تحتمل قراءة جدية.
ثاني ما تتطلبه اللحظة من الأمير السعودي الذي يتصرف بزعامة هو إغلاق ملف الحرب العبثية في اليمن، وهي الحرب التي كلفت ثمناً ليس مالياً بل من هيبة ومكانة السعودية كدولة كبيرة، فلم يعد يليق بها الاستمرار بهذه الحرب، على بن سليمان أن يستدعي كل أطراف الصراع في اليمن وإرغامهم على التوافق دون استثناء أي طرف بمن فيهم الحوثي، هذه ستسجل أيضاً في تاريخه عندما يحول اليمن إلى دولة سند تدور في فلك الرياض بدل أن تبقى جرحاً في الخاصرة السعودية والعربية، ويمكن ذلك كواحدة من أبرز أوراق اعتماد الزعامة في المنطقة، وهناك بوادر وحديث خافت عن خطوة كهذه أصبحت ضرورية له الآن، وخصوصاً مع غضب أميركي قادم قد يجعل من فوضى اليمن ساحة لتأديب السعودية، لذا يجب أن تكون حركة الرياض أكثر رشاقةً الآن....!!!!