تعيدنا الحرب الروسية الأوكرانية، والنزاعات الحديثة الدولية والأهلية في شتى بقاع العالم، إلى الجدلية التاريخية بين أهم الفلاسفة عبر التاريخ، وسؤال ما إذا كان العنف هو طبيعة متأصلة في الإنسان، أم أنه مكتسب من الظروف والبيئة المحيطة؟ اعتبر ابن خلدون أن العنف نزعة طبيعية، "ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعضهم لبعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه، امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع". فيما يرى الفيلسوف الإنجليزي هوبز في تحليله لانثروبولوجيا النوع الانساني، عبارته الشهيرة، "أن الإنسان ذئب لأخيه الانسان"، أما المؤرخ البريطاني ارلوند توينبي فاعتبر أن ظاهرة العنف، ناتجة عن  القيم التنافسية الموجودة في الرأسمالية والشيوعية. على النقيض من ذلك، يرى كل من كارل ماركس وجان جاك روسو أن أصل الطبيعة البشرية هو الخير، لكن  فسادها يعود إلى الظروف  المحيطة.

يرمي هذا المقال لتسليط الضوء، على ما ينتجه التنافس بين القوى العظمى، وما تمارسه من تعدّ على سيادة الدول والشعوب ومبادئ حقوق الإنسان، من تفاقم ظاهرة العنف في العالم يُخيّل للبعض أن الحروب، التي شنتها الدول المستبدة والاستعمارية والتي قلبت حياة الشعوب رأسا على عقب، تضع أوزارها وتنتهي بتوقيع اتفاقية بين الأطراف المتنازعة، وبوضع الأسلحة التقليدية، لكن الحرب لا تنتهي عند هذا الحد، والمياه لن تعود إلى مجاريها، هناك حرب جديدة تولد بين الإنسان وذاته ومحيطه، وداخل الأسر والمجتمعات، نتيجة الظروف الصعبة من فقر وبطالة، وانعدام الأمن الغذائي والإنساني والمجتمعي، والحرمان حتى من أساسيات الحياة وأبسط حقوق الإنسان، ما تنتجه الحروب من تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وبيئية خطيرة، تنعكس على سلوك البشر، ليصبح الإنسان الذي ولد مسالما خيّرا أكثر قابلية، لاستخدام العنف في ظل التعرض للضغوط المحيطة المختلفة، إلا من كان وازعه الأخلاقي أقوى من الظروف.

توفر الحروب والانتهاكات المخالفة، لكل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية التي تتزامن معها، بيئة خصبة لاشتعال العنف بين البشر ونموه في المجتمعات، مثل اللاجئين الذين يفرون من  القصف والقتل، يجدون أنفسهم أمام قتل من نوع آخر، قتل أكثر إيلاما وموت متكرر كل يوم بفعل ما يمارس عليهم، من ظلم وعنصرية وحرمان. وهذا ما أكدته النائبة في البرلمان الأوروبي " كلاير دالي" في خطابها في البرلمان، حيث فضحت بشكل علني العنصرية والتمييز اللذين يمارسان، ضد اللاجئين غير الأوروبيين كاللاجئين الأفغان في الدول الأوروبية، وذلك بسبب اختلاف اللون وبسبب الخوف من النفوذ الأمريكي، أليست العنصرية والاضطهاد كافيان لتنامي الكراهية والعنف في المجتمعات كافة، فقد نشر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)  في تقرير صدر عام 2021 "أن المهاجرين الذين يتم تهريبهم عبر الحدود غالبا ما يتعرضون للعنف الشديد والتعذيب والاغتصاب والاختطاف، سواء أثناء العبور أو في الأسر، فيما لا تتخذ السلطات سوى القليل من الإجراءات للتصدي لهذه الجرائم".

ان الإعتداء على المدنيين، والتعدي على سيادة الدول وضرب الاتفاقيات الدولية بعرض الحائط، بما فيها اتفاقية جنيف لعام 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. والأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، ومعاملتهم معاملة انسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة، هو أكبر دليل على أن النظرية الواقعية، هي التي تسيّر وتحكم العلاقات الدولية في العالم، مستندة إلى مبدأ مكيافيلي "لا أخلاق في السياسة " ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة. سيجعل العالم كله على وشك الانهيار، ليس فقط انهيار في علاقات الدول وفي وضعها الاقتصادي، بل انهيار في داخل الدول نفسها بسبب تداعيات الحروب وتفاقم العنف، وبسبب تلك العصبية الدولية التي أشار اليها ابن خلدون في مقدمته، فالذي يحكم العالم اليوم مجموعة من أصحاب النفوذ، الذين يمارسون العصبية الدولية على العالم، ويتنافسون على سرقة أمن وأمان وثروات الشعوب.

من المؤسف أن يتم إحصاء الخسائر المادية، والبشرية كأرقام فقط، ولكن لا يتم إحصاء الخسائر المعنوية التي تسببها الحروب والعنصرية والاضطهاد، فالخسارات كبيرة، عميقة ومؤلمة، هناك أسر محيت عن بكرة أبيها، ومن السجل المدني كما حصل في العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، وأسر تفرق أبناؤها، أطفال تيتموا وشردوا، الحروب تعني إنهاء لحكايات وأحلام شعوب بأكملها، بدم بارد. بالتأكيد كل تلك الآلام والصدمات والخوف الذي تتركه الحروب في نفوس البشر، ستؤدي إلى تغيير جوهري وعميق في طبيعة الإنسان وسلوكه الذي تحدث عنه روسو نتيجة الظروف القاسية، وذلك التغيير في بنية المجتمعات والتفاعل بين الشعوب، لا يمكن إحصاؤه على الرغم أن النتائج وخيمة. فالحرب لا تضع أوزارها فقط وإنما تضع معها الأخلاق ومنظومة القيم الإنسانية، ومستقبل شعوب ودول وأمنها واستدامة وجودها في مهب الريح.

إن الحرب الأخيرة وغيرها من الحروب المدمرة في العصر الحديث، وما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي من انتهاكات للقانون الدولي، من قتل ووحشية واستيطان بحق الشعب الفلسطيني منذ أربعة وسبعين عاما، وغير ذلك من النزاعات الدولية والأهلية التي يصعب حصرها، والتي وصل بعضها إلى حد التطهير العرقي والإبادة، وأدت إلى إغراق العالم بالكوارث الإنسانية، كفيلة بأن تفاقم الخلل في العلاقات الدولية، وفي بنية المجتمعات ومنظومة القيم الاجتماعية والإنسانية لديها. لذلك ليس مفاجئا أن يتحول العالم تدريجيا إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة.

وهذا يتطلب من الدول النامية والضعيفة، أن تتحد لتشكل قوة  أمام عنجهية الدول العظمى والقوى المستبدة، والوقوف ضد هذه الغطرسة والجنون وانتهاك سيادة الدول، لقد آن الأوان للأمم المتحدة ألا تكتفي بإصدار التقارير والإدانة، وتشكيل لجان التحقيق مع نشوب كل حرب، وإنما لا بد من إثارة المسؤولية القانونية الدولية، لجرائم الحرب وفرض العقوبات على الجناة، فيما يتعلق بالإعتداء على سيادة الدول، وارتكاب جرائم حرب، وإلا فإن فوضى العلاقات الدولية والتي سيدفع ثمنها وثمن غياب الأخلاق في العلاقات الدولية، ملايين من الأبرياء والإنسانية جمعاء. فالإنسان ولد إنسانا والحرب الحقيقية بدون أسلحة هي بين الإنسان وإنسانيته في ظل كل ما يتعرض له من قهر وظلم.