العداء من أميركا للصين وروسيا مُعلن في استراتيجياتها، وهو قائم في الواقع بأشكال متعددة من العداء والمحاصرة واختلاق الأزمات، وهو متعدد الأساليب والأدوات العسكرية والأمنية، وهو ملموس ومباشر في المجالين التقني والاقتصادي، إضافة إلى كونه شاملاً وضارياً في مجال الاستهداف الإعلامي والثقافي.
قلنا في مقالات سابقة إن العداء الأول والاستعداء المباشر يأتي من الولايات المتحدة، بدعم كامل من الحلف الأنجلوساكسوني، وبالتحاق أوروبي، بالرغم من بعض التحفظات الأوروبية في حالة العداء والاستعداء الأميركي للصين، وبدرجة أخرى من التحفظات حيال روسيا الاتحادية.
الولايات المتحدة والغرب كله لا يمكنه «خوض» معارك عسكرية مباشرة مع روسيا من الأرض الأوروبية دون خطر التحول إلى حرب نووية مدمّرة، ولذلك فإن الغرب سيظل على موقفه من الأزمة الأوكرانية، وهو أن هذه الحرب يجب أن تظل على الأرض الأوكرانية، ويجب أن تطول بقدر ما «تصمد» أوكرانيا، ويجب أن يترافق الدعم العسكري والسياسي لها مع الحرب الاقتصادية الشاملة ضد روسيا، وصولاً إلى «إنهاك» القوات الروسية وزعزعة الاقتصاد الروسي، والذي سيؤدي من وجهة نظر الغرب إلى كسر الحلقة الروسية، تمهيداً للتفرغ للحلقة الصينية.
كل الادعاءات الغربية حول حيادية الصين من الأزمة الأوكرانية هي ادعاءات كاذبة ومضلّلة، وهي تعكس رغائبية سياسية ليس لها رصيد حقيقي، وهي انعكاس لحالة انفكاك عن الواقع عند الغرب لا يختلف من حيث الجوهر عن حالة الانفكاك عن الواقع الذي نلمسه في الحرب الإعلامية الضارية التي يخوضها الغرب ضد روسيا، وفي انتظار «المعجزات» السريعة من الحرب الاقتصادية الشاملة التي يخوضها.
الانفكاك عن الواقع هو الحل الوحيد، أو السلاح الوحيد الذي تملكه الولايات المتحدة، لأن كافة الطرق التي تؤدي إلى الإبقاء عليها، الدولة القطب الوحيد أصبح مستحيلاً، والإبقاء على الغرب القطب الأقوى بات مستحيلاً، إن لم يكن اليوم، فغداً مع نهاية هذه الأزمة، أو بعد غدٍ عندما يجد العالم نفسه أمام «يالطا» جديدة، وأمام صورة بالألوان بدلاً من صورة الأسود والأبيض آنذاك.
الصين ليست على عجلةٍ من أمرها، وليست بحاجةٍ إلى تسريع عمليات التحول إلى الوضع الجديد، إلّا إذا أُرغمت على ذلك، ويستحيل إرغامها الآن.
استراتيجية الصين تقوم على ما يشبه الحكمة:
(احتفظ بكامل الهدوء، لا تظهر كل قوتك قبل الأوان، ودع كل شيء ينضج حتى اللحظة المناسبة).
وعندما تعلن الصين أن سبب الحرب والأزمة الأوكرانية هو التوسع الغربي لحلف «الناتو»، ومحاولات تهديد الأمن القومي لدولة كبرى ونووية، وأن الحرب الاقتصادية الشاملة لن تحل أي مشكلة للأزمة الأوكرانية، بل تزيدها تعقيداً، فهل تنتظر الولايات المتحدة، وينتظر الغرب أن تشارك القوات الصينية في إنزالات عسكرية في أوكرانيا، أو مشاركة البحرية الصينية في قصف أوكرانيا حتى تقتنع بأن الصين تقف إلى جانب روسيا من موقع إدراك كامل للاستراتيجية الأميركية والغربية؟
الانفكاك عن الواقع لا يقتصر على رؤية الموقف الصيني، أو محاولة تعميم التصريحات الصينية.
لا تريد الولايات المتحدة في هذه المرحلة على الأقل أن ترى كيف أن (الوحدة) التي تراها متجسّدة في موقف البلدين من هذه الحرب، وفي «تماسك»، الحلف الغربي ضد روسيا، ومحاصرة «العالم» لروسيا، وقد تحول إلى «حقيقة» ثابتة، إنما هي، أيضاً، حالة انفكاك عن الواقع ستؤدي إلى نتائج عكسية لما تتحدث عنه الولايات المتحدة.
كل ما تحاول الولايات المتحدة إيهام العالم به قابل للتبدّد، ليس على المديين المتوسط والبعيد، وإنما على المباشر، أيضاً.
دعونا هنا ننتظر فقط المعطيات الآتية:
• إذا ما استمرت العملية العسكرية الروسية على نفس هذه الوتيرة، وهي تستمر من جانب واحد في الواقع، واستمرت روسيا في ضرب المواقع الأوكرانية في غرب روسيا بالصواريخ الفرط صوتية، وأطبقت روسيا على كامل القوس الذي يقسّم أوكرانيا إلى نصفين، وأحكمت حصار كل المدن المتبقية في «القسم الشرقي»، فأين هو الاستنزاف الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة؟!
• تأسيساً على ذلك، هل يوجد من مخرج للأزمة سوى «تأمين» الشروط الروسية بالحد الأدنى، وحينها ماذا ستفعل الولايات المتحدة، وكيف سيكون عليه الموقف الصيني سوى الدعم الكامل لهذا المسار؟!
• لم تتخذ روسيا حتى الآن الإجراءات الاقتصادية المتكاملة للرد على العقوبات، فماذا سيكون عليه موقف الغرب عندما تقوم روسيا بالخطوات التي من شأنها التأثير المباشر على الاقتصاد الأوروبي؟!
ألم تبدأ أزمات التضخم بالظهور تباعاً في الاقتصادات الغربية؟
ألسنا أمام بداية نزول الناس إلى الاحتجاجات في الشارع منذ الآن، وقبل الردود الروسية، وهي كبيرة وحساسة وخطيرة جداً على الغرب؟
ماذا لو «أُرغمت» روسيا كإجراء «جراحي» على قَطْعِ الغاز عن أوروبا؟
هل سيصمد «التحالف الدولي ضد روسيا؟ أوَليس هذا ما تقوله الصين؟
هل يحقق سباق التسلح الأوروبي أي فوائد للاقتصاد الأوروبي أم أن الفوائد الحصرية هي للمجمع العسكري الصناعي الأميركي، وأوروبا هي التي ستدفع الثمن الأكبر لهذه العقوبات ضد روسيا، فهل للصين أي مصلحة في ذلك أم أن العكس هو الصحيح؟!
من حيث عدد السكان فإن نصف سكان العالم ليسوا مع العقوبات، ما يعني أن تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا له مخارج في هذا المجال، إضافة إلى قدرتها الخاصة على إعادة تكييف اقتصادها مع استراتيجية الاعتماد على الذات، وهي تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم القادرة على هذا التكيّف، نظراً لما تمتلكه من موارد وثروات.
ألن تكون الصين في هذه الحالة أكبر المنتفعين نظراً لحاجة الاقتصاد الروسي إلى الأسواق الصينية؟
فلماذا ستقف الصين في هذه الحالة مع الغرب، أو في موقف الحياد؟ أليست مصلحة الصين الصريحة هنا أن تكون مع روسيا في السلم وفي الحرب، سواء بمواجهة العقوبات، أو دعم الحل السياسي والمفاوضات؟
الغرب لا يريد أن يعترف بالأخطاء الاستراتيجية التي وقع بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولا يريد أن يعترف باستحالة الانتصار على روسيا، وأن من الأفضل له وللعالم أن يعترف بأن مرحلة الهيمنة الوحيدة انتهت، وأن أقطاباً جديدة باتت تعد نفسها، وهي جاهزة للجلوس على طاولة «يالطا» ولم يتبقَ أمام الغرب سوى أن يسلّم بهذا الواقع.
أميركا اللاتينية والشرق الأوسط ودول كبيرة ومؤثرة في آسيا وإفريقيا ليس لها أي مصلحة في بقاء هيمنة الغرب، ولا في دعم حروب هذا الغرب، العسكرية والاقتصادية ولا حتى الإعلامية.
الغرب يغامر بتدمير اقتصادات أوروبا إذا ما تطورت الحرب إلى مراحل أوسع، حتى من دون الحرب النووية، أو بمعارك نووية (موضعية أو تكتيكية)، وأوروبا تغامر بفاتورة هذه الحرب من لحمها الحيّ، في حين أن التحالف الأنجلوساكسوني يتوثب لإعادة السيطرة على أوروبا من باب الحماية العسكرية، ومن باب هشاشة أوروبا في القدرة على حماية نفسها.
الغرب خسر الحرب، وعليه أن يدفع الثمن مضاعفاً، وكل ما يحاول أن يبحث عنه «الانتصار» في بعض المعارك الجانبية على هوامش الصراع بين نهاية القطبية الأحادية وولادة عالم متعدد الأقطاب.
الصين بهذا المعنى هي صاحبة المصلحة الأولى في الوصول إلى هذه النتيجة لأسباب اقتصادية وسياسية أكثر من أي طرف آخر، وهي ترى أن الوصول بات وشيكاً ولا يوجد لهذا المسار أي صفة استعجال، وهي بالانتظار.