هل أراد يائير لابيد وزير الخارجية الإسرائيلي من زيارته لساحة باب العامود في مدينة القدس، منافسة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش على إشعال النيران وتفجير الأوضاع؟ يبدو أن لابيد دخل فعلا في سباق مع عتاة المتعصبين العنصريين الذين اتهموا حكومة بينيت - لابيد بالفشل الأمني وحملوها المسؤولية عن موت 11 إسرائيليا في أسبوع. لابيد العائد من قمة النقب التي أراد من خلالها فصل مصالح المؤتمرين العرب واهتماماتهم عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وفي مقدمة ذلك حقه في التحرر من أطول احتلال في التاريخ المعاصر.
في زيارته الاستفزازية لساحة باب العامود، تعامل لابيد ليس كوزير خارجية بل كوزير أمن، شأنه في ذلك شأن وزراء الأمن والجيش في دولة الاحتلال الذين دَرَجَوا على فصل الأمن عن السياسة، وهذا ما فعله لابيد أيضا، بعد استشعاره لخطر سقوط حكومته، في أعقاب استطلاع رأي يقول فيه 68% من الإسرائيليين إن أداء الحكومة في مواجهة «الإرهاب» غير جيد. لابيد لا يختلف عن بينيت ولا عن نتنياهو في تجاهلهم لأي حل سياسي يُنهي الاحتلال. ما يهمه فقط ترجمة اتفاق تقاسم رئاسة الحكومة في الوقت المحدد وعدم الذهاب إلى انتخابات مبكرة قد تعيد نتنياهو إلى سدة الحكومة.
يتفق معسكر بينيت ــ لابيد على خفض النزاع مع الفلسطينيين، أو إدارة صراع غير قابل للحل إلى ما لا نهاية، هذا يخفي جذر المشكلة او كما يقول الكاتب الإسرائيلي إيال زيسر في صحيفة «إسرائيل اليوم،»: الجمرات التي تغذي النزاع الدموي لا تزال تشتعل وهي عدم استعداد عميق للاعتراف الفلسطيني بحق وجود دولة إسرائيل، ويضيف: بعد 150 سنة صراع على البلد، علينا الاعتراف بالحقيقة البسيطة بأن الصراع مستمر وبعيد عن نهايته. هذا التحليل يطرح سؤالا مهما، لماذا هذا الصراع غير قابل للحل؟ الجواب، لأن إسرائيل ترفض الاعتراف بالحل الذي قدمه النظام الدولي منذ العام 1947 وحتى صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 في العام 2016 الذي أعاد تعريف حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إسرائيل ترفض كل قرارات الشرعية الدولية، ولا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية في فلسطين التاريخية، بحسب قانون القومية الإسرائيلي ومنظومة القوانين العنصرية. وبفعل الإنكار الإسرائيلي يكون إنهاء الصراع الممتد منذ 150 عاما بانتصار مطلق لإسرائيل وهزيمة مطلقة لفلسطين، كما حدث مع السكان الأصليين في أميركا واستراليا. وطالما لم يسلم الشعب الفلسطيني بالهزيمة فإن الصراع غير قابل للحل وغير مطروح للحل من وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية، ويصار إلى إدارته وخفضه وشراء الهدوء بانتظار الحسم النهائي.
أصحاب هذه النظرية لا يدركون أن الحسم النهائي لا يتحقق إلا بتطهير عرقي دموي لـ 6 ملايين فلسطيني، وهذا افتراض خيالي غير ممكن واقعيا في عالم اليوم قبل أن يقوض مثل هذا الفعل الإجرامي كل مبررات وجود دولة إسرائيل، ولا يتحقق دون أن يغير منظومة العلاقات في الإقليم والعالم.
بل إن تجاهل حل الصراع وإنكار فلسطين الشعب والأرض أخذ يترك بصماته على المجتمع الإسرائيلي، يقول الكاتب الإسرائيلي. ب. ميخائيل في صحيفة «هآرتس» 2016: «عند الحديث عن الفاشية التي تكون خلفيتها دينية، عرقية أو عنصرية – يجب أن يمر المجتمع في مرحلتين أساسيتين. الأولى هي نزع الصفة الإنسانية الكاملة عن «الآخر» ابن الديانة الأخرى أو الشعب الآخر أو العرق الآخر. وفي وعي من يصبح فاشيا، فإنه يجب على كل هؤلاء أن يكفوا عن كونهم إنسانيين. لذلك يجب تحويلهم إلى حيوانات بلا حقوق، إلى أدوات خطيرة والى تهديد طبيعي. هكذا يكون سهلا على الفاشي أن يصيبهم ويعذبهم ويسلب حقوقهم وممتلكاتهم، وأيضا يقوم بقتلهم كما يقتل الحشرات. المجتمع الإسرائيلي أثبت أنه استكمل بنجاح كبير هذه المرحلة بعد أن استكمل نزع الصفة الإنسانية عن الآخر الفلسطيني. المرحلة الثانية: يجب استخدام مصطلح ألماني قديم يعني «حُر مثل الطائر». المغزى القانوني منه – «مسموح الصيد مثل الطائر» لأي شيء مهمل ومتروك، ويوجد خارج القانون، الشخص وممتلكاته مباحان للجميع. وحياته أيضا، ومن يصيبه لا تتم محاكمته. وإذا قُتل لا يتم دفن جثته. إن مصدر هذا المصطلح هو العصور الوسطى». أصاب الكاتب ميخائيل، فدولة الاحتلال تمارس فعلا تخريبا منهجيا في المجتمع الفلسطيني، وتعمل كل ما في استطاعتها لتقديم صورة الفلسطيني كإرهابي ومتخلف ومتعصب ومتطرف.
عودة إلى سياسة خفض الصراع، الحكم العسكري الإسرائيلي يتجاهل سيرورة تفاقم التناقضات بين شعب تحت الاحتلال واستعمار استيطاني بنظام «أبارتهايد»، تناقضات تقود إلى انفجارات متتالية قد تأخذ أشكالا فردية أو جماعية، والحكم العسكري يتجاهل أن إذلال الشعب الفلسطيني وحرمانه من ابسط حقوقه الوطنية والمدنية سيفاقم الصراع ولا يخفضه. وهذا يفسر التصادم المعلن عنه وغير المعلن عنه، - بحسب (هآرتس): «فإن الأمن الإسرائيلي أفشل 60 عملية مقابل 3 عمليات أخفق في إفشالها، وإذا أضيف إلى التصادم اليومي، عدد المعتقلين اليومي، وعدد إجراءات المنع، والاحتجاجات شبه اليومية، فإن الصراع لا يهدأ إلا ليشتعل من جديد، وان الاحتلال وإجراءاته وإهانته وإذلاله للمواطنين يقود إلى الاشتعال والى تغيير في سيكولوجية وثقافة وبنية المجتمع الفلسطيني وكذلك المجتمع الإسرائيلي. صحيح أن الاحتلال يتعايش مع تصادم يومي ويجعله تحت السيطرة، إلا أن التناقضات قد تقود إلى هبة أو انتفاضة، أو إلى مواجهة وحروب، كما حدث في الحروب الأربع ضد قطاع غزة في اقل من 12 عاما، وحرب إعادة احتلال الضفة في العام 2002.
في ظل معادلات الإنكار والشيطنة والاستباحة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني، ثمة حاجة لتجاوز حالة الارتجال وردة الفعل والعفوية من جهة، وتجاوز السياسة البيروقراطية العليا من جهة أخرى، والانتقال إلى الفعل المنظم الجماهيري الذي يفضح التجاهل والشطب السياسي الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، ويبني جسور التفاعل والعمل مع الشعوب والقوى والنخب المناهضة للاحتلال والتوحش والحرب والهيمنة. هل سنملك سياسة نقيضة للتجاهل والإنكار ولعبة خفض التوتر وشراء الهدوء وتحسين الأحوال المعيشية في رمضان، ومتى سنعتمد سياسة وضع الاحتلال على الأجندة الفلسطينية وتغيير قواعد الصراع السياسي والجماهيري.