لثورة المعلومات والاتصالات من الإيجابيات بقدر ما لها من سلبيات. ولعل في تراكم وكثافة الأخبار، في فترات قصيرة، وإمكانية التلاعب بها بالتكبير أو التصغير، ما يمثل أبرز السلبيات. ولا يبدو من قبيل المبالغة القول إن "قمة النقب"، التي استضافتها إسرائيل، وضمّت دولتين مركزيتين في العالم العربي، هما مصر والمغرب، تمثل حدثاً تاريخياً من عيار ثقيل، وأنها لم تنل ما تستحق من التفكير والتدبير، فقد طغت عليها أخبار الحرب في أوكرانيا، إلى جانب أخبار وهموم آنية متلاحقة وكثيرة.
هذا لا يعني أن أحداً لم يسمع بها، أو لم يلتفت إلى دلالتها التاريخية، فقد عالجتها وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية بقدر واضح من الاهتمام، ولم تفشل في القبض على دلالاتها الرمزية والتاريخية، وتداعياتها الاستراتيجية. هذا على صعيد العالم، بالمعنى الكبير للكلمة. وبلغات مختلفة من بينها العربية، خاصة على شاشة فرنسا 24.
أما في العالم العربي، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتوجيهات الرسمية للناطقين الرسميين، ومعدي نشرات الأخبار، فقد بدت كثافة الأحداث وسرعتها نعمة من السماء، إضافة إلى الكلام المألوف، والفارغ، عن السلام، والمصالح المتبادلة. وفي حالات بعينها، وفي معرض تسديد ضربات تحت الحزام تكلّمت منصات إعلامية مُعيّنة، مباشرة ومداورة، عن صعود الدور الإسرائيلي، و"سلام إبراهيم".
لذا، لا نأتي بجديد إن قلنا إن قمة النقب تكرّس وجود إسرائيل كقوّة إقليمية فاعلة، وتضعها على رأس تحالف يمثل منظومة عسكرية وسياسية واقتصادية وأمنية، ويضم عرباً وإسرائيليين (سمه الناتو العربي ـ الإسرائيلي، أو الحلف السني ـ الإسرائيلي، أو سلام إبراهيم، لا فرق). ولا نأتي بجديد إن قلنا إن الدولة الإسرائيلية لم تعد وكيلاً للقوّة الأميركية بل تأخذ الكثير من أدوراها، وتحل محلها، على أمل ممارسة دورها، وجباية ضرائبها، في العالم العربي والإقليم.
والواقع أن في مجرّد وجود خلاصات كهذه، بقطع النظر حتى عن مدى صوابها، ما يدل على حجم القمة وأهميتها. لذا، نتناول في معالجة اليوم، ومعالجات لاحقة، بعض ما يستحق التفكير والتدبير، ولا يجد عن سابق إصرار وتصميم عند صنّاع الرأي العام، ما يستحق من مساحة واهتمام. ففي المسكوت عنه ما يمثل وسيلة ناجعة لكشف حقيقة المنطوق، والمُصرّح به، والمُعلن والعلني، أي وضعه على سكة الفضيحة.
أوّل ما يستحق التفكير والتدبير مسألة إيران. فهي مصدر كل تهديد في الإقليم والعالم، كما تصوّرها أغلب وسائل ومنصّات الإعلام العربية، والإسرائيلية، والأميركية. لذا، لم يفشل أحد من المشاركين في "قمة النقب"، والمعلّقين عليها، والمتعاطفين معها، والمعارضين لها، في القول إن مبرر "لقاء"، "اجتماع"، "قمة"، "مؤتمر"، "حلف"، "محور" النقب، هو مجابهة الخطر الإيراني، النووي، الإرهابي، التوسعي، الطائفي، و"لعين الوالدين" في آن. وفي هذا القول ما لا يقبل غض النظر، وتجاهل ما يتجلى فيه من تناقضات، وما يستدعي من تحفّظات.
نحن في زمن الانقسامات، والأكاذيب، والتحيّزات، والتطرّفات الكبرى. لذا، أوّل ما قد يخطر على بال شخص لا يعرف كاتب هذه السطور أن صاحبها يؤيد إيران. وليس ثمة ما هو أبعد عن الحقيقة من وهم كهذا. فإيران ديمقراطية وعلمانية أفضل ألف مرّة من حكم الموالي.
لذا، وبعد "إبراء الذمة" فلنقل إن "الفزّاعة" الإيرانية تُستخدم من جانب "العرب"، والإسرائيليين والأميركيين لأسباب مختلفة، فلكل طرف من هؤلاء حسابات ورهانات مختلفة، ولكنها تجتمع عند شيء يدعى "التهديد الإيراني". يضم معسكر "العرب" أصدقاء وحلفاء تقليديين للولايات المتحدة، إضافة إلى قوى جديدة جلبتها الثورة المضادة إلى سدة الحكم، أو جعلت منها شريكاً يصعب الاستغناء عنه، كما في السودان، وليبيا.
وبهذا المعنى، وحتى قبل البحث عن مسوّغات للعداء، فإن من "آداب"، إن لم نقل "شروط وواجبات" الصداقة مع السيد الأميركي، كما تشهد حالات كثيرة، تأييد سياساته في الإقليم والعالم، هذا إن لم نقل الانخراط فيها، ودعمها. وإذا أضفنا إلى "الآداب" و"الشروط والواجبات" حقيقة أن إيران شهدت ثورة شعبية حقيقية، تعادي الإسرائيليين، والأميركيين، وابتكرت بدعة اسمها "الجمهورية الإسلامية"، تكون مسوّغات العداء قد اكتملت حتى لو كانت الأم تيريزا رئيسة إيران، ودون حاجة لوجود النووي، والخطر الشيعي، والإرهاب.
وللتدليل على صحة ما تقدّم فلنقل إن إيران الشاه، التي كانت حليفاً مركزياً للولايات المتحدة، وأحد ثاني أهم حليفين لها، بعد إسرائيل، لم تتعرّض لكل هذا القدر من العداء والتشهير والتحريض من جانب الأصدقاء والحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في العالم العربي، رغم احتلالها لجزر تعود ملكيتها للإمارات، وتخطيطها لاحتلال مناطق النفط في السعودية في أواسط السبعينيات (طرح الشاه الاقتراح على الأميركيين للحصول على دعمهم وفشل، وقد فكّر البعض في مجلس الأمن القومي الأميركي في احتلال أميركي للمناطق نفسها).
ولنتذكّر أن الشاه وجد الملجأ والملاذ الآمن في مصر بعد أن تخلى عنه أصدقاؤه الأميركيون، وأن محاولات التقارب بين الدولتين المصرية والإيرانية في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي تمثلت في زواج ولي العهد الإيراني من أميرة مصرية من بنات الملك فؤاد، وأن علاقات إيران بمصر الناصرية تدهورت لأسباب تتعلّق بحلف إيران الشاه مع أميركا وإسرائيل.
ثمة ما لا يحصى من الشواهد، التي يمكن الاستعانة بها للتدليل على حقيقة أن إيران الشاه نالت معاملة ودية وتفضيلية من جانب "العرب" رغم أنها لم تكن أقل تهديداً من إيران ما بعد الثورة. لذا، كلما سمعنا كلاماً عن التهديد الإيراني لتفسير أو تبرير هذا الفعل أو ذاك، فلنبحث عن الحقيقة في مكان آخر، طالما أن "عين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا".