لم تنته الحرب الروسية على أوكرانيا في أيام ولا في أسابيع، وكلما مر الوقت اكثر ازداد اليقين أن الأمر أكبر من مجرد حرب بين جارتين. ورغم فتح حوار بين الطرفين إلا أن ثمة حوارا آخر لا بد أن يجري ليس بين موسكو وكييف بل بين أوروبا وأميركا من جهة وبين موسكو، إنه الحوار الذي يعيد ترتيب أوراق اللعبة في القارة ويعيد ترسيم حدود الحرب الباردة الجديدة التي ستهب رياحها عاتية بعد أن تخمد أصوات المدافع والقصف الجاري حالياً. وترتيب الأوضاع في القارة العجوز لا بد أن يشمل حدودا جديدة للتحالفات وللتمدد الذي لم يتوقف الذي يشهده «الناتو» ويشهده الاتحاد الأوروبي.
فلو كانت حرباً بين دولتين فإن أحداً لا يشك أن الأمر لم يكن ليمتد طوال هذه الفترة، صحيح أن روسيا لم تذهب باتجاه الحسم الشامل والسريع ولكن كان يمكن لهذا أن يحدث لو قصد منه أن يتم تدمير أوكرانيا وتنصيب قيادة جديدة لها. من جهة، لم يكن ثمة نزوع روسي واضح في هذا الاتجاه، ومن جهة ثانية فإن التدخل الأميركي والأوروبي على صعيد التسليح والإمداد لم يسمح له أن يحدث. ربما أن الرؤية الروسية للحرب تختلف عن تلك التي تصرفت فيها أميركا في عدوانها على أكثر من دولة في العالم في العقدين الأخيرين، وهو تصرف اتسم بسرعة الحسم وترك الفوضى بعد المغادرة. أليس هذا ما حصل في العراق؟ الجيش الأميركي يتدخل لخلق الدمار وشل البلاد ويغادر. إن فكرة حسم المعركة السريعة هي دليل الانتصار في القاموس الأميركي دون أن يعني هذا أن الجيش الأميركي يكون قد أنجز الأهداف الحقيقية المتوخاة من خلف الحرب. وبقدر ما هو جزء من فهم أميركي لطبيعة التدخل في الخارج بقدر ما يعكس رؤية واشنطن لطريقة إدارتها للعالم. العالم الذي لا بد أن يكون مسرحاً لتحقيق مصالحها. إنه العالم البعيد جداً عن الحدود الأميركية وبالتالي لا ضير لو عاشت البلدان التي تتدخل فيها الجيوش الأميركية في فوضى وانهيار وفلتان، لأن ذلك لن يؤثر على الأمن الأميركي ولا يمكن أن يسبب ضرراً.
إن فكرة الردع هي ما يمكن أن تشمل كل هذه المعاني. أن يتم ردع العدو ولا بأس مهما حدث بعد ذلك. هذا هو الفهم الأميركي الذي يجعل الحروب الأميركية أقصر عمراً وسريعة وشبه حاسمة. حاسمة بمعنى أن المشاهد يعتقد أن واشنطن نجحت وانتصرت وحققت أهدافها. فهذه الأهداف عادة ما تكون قصيرة ومعبر عنها بشكل واضح ويتم تنفيذها بسرعة تجعل التصديق بالانتصار أو بوهم الانتصار أمراً مؤكداً. تجتاح الجيوش بغداد ويتم تدمير العاصمة التي زخرت بالحضارات ويتم إسقاط تمثال صدام بطريقة تشبه مشاهد هوليود ثم يتم إعلان الانتصار، كل ذلك خلال أيام، ثم فلتغرق العراق في الفوضى وعدم الحسم طالما هناك منطقة خضراء للوجود الأميركي.
أما الحروب الروسية التي لم نكن شاهدين على الكثير من نماذجها مع حداثة التجربة الشيشانية فهي تدار بطريقة مختلفة. وربما ثمة خاصية جديدة لأوكرانيا تختلف عن الشيشان تتعلق بارتباط الأزمة الأوكرانية بالصراع الحقيقي على أوروبا وعلى ترتيب الأوضاع بعد عودة الدب الروسي ورغبته في التنزه بالمناطق الأكثر دفئاً. ما جرى في أوكرانيا يدفع للاعتقاد أن موسكو ليست في عجلة من أمرها، وأن فكرة الحسم السريع والاحتلال والإطاحة بالدولة الأوكرانية أمور ليست بنفس القدر من الأهمية إذ إن الحرب هي نفسها المهمة بالنسبة لموسكو. وبقدر توجه واشنطن في حروبها للحسم ولسرعته، فإن موسكو تنظر لفكرة الحرب أنها بحد ذاتها الرسالة التي تريد لخصومها أن يفهموها. فموسكو لن تترد في خوض الحرب دفاعاً عن مصالحها حتى لو اقتضى الأمر توتير أوروبا مرة أخرى، بل ووضع العالم على شفا حرب كونية جديدة. لذلك فإن جنرالات موسكو لم يستبعدوا حرباً نووية. بالطبع لم يقولوا ذلك لكنهم أوصلوا كل عواصم أوروبا لهذا الشعور: أنهم لن يترددوا في الضغط على الزر إذا تطلب الأمر كذلك. إن واحدة من نتائج ما يجري في كييف أن جميع العواصم الأوروبية باتت تشعر بأن أي توتر أو خلاف مع موسكو قد يقود إلى تعرضها إلى ذات القصف وذات «العزو»، لذلك فإن كييف تركت وحيدة واكتفت أوروبا بالتعبير عن تعاطفها أو إرسال بعض السلاح للصمود.
بات الموقف الأوروبي شعاراً يرفع في الملاعب يقول، «أوقفوا الغزو» أو شحنة سلاح مخصصة للدفاع وليست للهجوم. أشياء من هذا القبيل. ومع ذلك يصعب القول، إن أوروبا تركت أوكرانيا وحيدة لنفس السبب الذي تم ذكره سابقاً والمتمثل بالخوف من أن يكون الهدف التالي للقصف الروسي عاصمة أوروبية أخرى. وهذا يقودنا للنقطة التي انطلقت منها هذه المقالة من أن ما يجري في أوكرانيا أبعد من كونها حرباً بين دولتين، إنها حرب تدار بطريقة مختلفة بين واشنطن وحلفائها من جهة وبين موسكو التي تريد أن ترتب أوضاعها للمرة الأولى بشكل واضح وصريح بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي.
وعليه، ما لم تجلس الأطراف الحقيقية التي تدير الحرب على الطاولة وتتفاوض فإن الحرب ستظل مستمرة، ولن ينجح الروس في وضع حد لها إلا إذا تمكنوا من تنصيب نظام جديد بشكل كامل مكان النظام الذي أراد لـ»الناتو» أن يقف على بعد النظر من موسكو، الأمر الذي بينه خرط القتاد بالنسبة للروس. ثمة جملة من المشاكل التي يجب حلها وثمة جملة أكبر من التفاهمات لا بد أن يصار إلى التوصل لها، وثمة قواعد جديدة لحرب باردة قادمة يجب أن يتم إرساؤها بالاتفاق حتى يتجنب العالم المزيد من التوتر في قادمات السنين، ولكن هذه المرة مصالح روسيا هي من سيحدد ذلك.