بعد صدور نتائج انتخابات الرئاسة الفرنسية قبل يومين والتي لم يحسم بها أي من المرشحين الأغلبية المطلقة المطلوبة للفوز ، ينتقل مرشح يمين الوسط الرئيس الحالي ماكرون والذي حصل على ٢٨% ومرشحة اليمين المتطرف لوبين التي حصلت على ٢٣% إلى الدورة الثانية يوم ٢٤ من الشهر الحالي لحسم النتيجة بينهما .
لقد كان أمام اليسار الفرنسي لو توحدت جهوده في دعم مرشح واحد، الفرصة المؤكدة ان ينتقل إلى الدورة الثانية للمنافسة ، حيث حصل مرشحي اليسار المختلفين على ما مجموعه ٣٣% من اصوات الناخبين، تقدمهم مرشح اليسار الراديكالي ميلانشون بحصوله على ٢٢% ، وخاصة انه حصد الاكثرية من أصوات الفئات الشابة والناخبين في مدن الريف المتعددة وضواحي باريس ، إضافة إلى اصوات الفئات المهمشة بالمدن الرئيسية .
فبغض النظر عن التفاوتات القائمة بين مختلف اقطاب أحزاب اليسار الفرنسي ومن ضمنهم الشيوعيين حول عدد من القضايا المثارة أمام الناخبين ، الا انه كان من المفترض برأيي أن يتحد اليسار في دعم المرشح الاقوى بينهم "ميلانشون" كي يأمنوا انتقاله للدورة الثانية ، في مواجهة اليمين الفرنسي ، ويعملوا حينه من أجل فوزه في هذه الانتخابات وفق برنامج يستند إلى ما يجمعهم من قضايا اساسية جوهرية ، خاصة أمام مخاطر فوز لوبين اليمينية المتطرفة.
ورغم ما يوجد بينهم من خلافات غير واسعة حول قضايا سياسات داخلية وأوروبية ، الا ان موقف هذا اليسار المشتت بفرنسا واضح المعالم تجاه ضرورة الخروج من حلف الناتو ووضع الحلول للقضايا الاجتماعية والاقتصادية بفرنسا بعيدا عن الجشع والاستغلال ، وتاييد ومساندة قضايا شعبنا الفلسطيني وحقوقنا الثابته ، والنظر إلى إسرائيل كدولة نظام ابرتهايد واحتلال استيطاني ، ومناهضتهم لسياساتها ودعوتهم من أجل الاعتراف بدولة فلسطين على حدود ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية .
وذلك في مواجهة سياسات يمين الوسط واليمين المتطرف التي تتفاوت ما بين التايد والمناصرة لإسرائيل وسياسية النفاق والكيل بمكيالين تجاه القانون الدولي من قضايا الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان وهوية القدس .
للأسف ان أزمة اليسار الفرنسي والاوروبي بشكل عام كما هو حاصل أيضا باليونان وإيطاليا وإسبانيا ودول أخرى ، تعيق إمكانية لجم تمدد اليمين الأوروبي وتفتح المجال أمام إمكانية وصول اليمين المتطرف والشعبوي وقوى النازية الجديدة إلى الحكم في تلك الدول وغيرها من دول أوروبا الشرقية ، وتتيح المجال أمام استمرار حكم أحزاب اليمين ويمين الوسط فيها، الأمر الذي يعيق وجود سياسات واضحة وصريحة تجاه مناهضة الاحتلال الإسرائيلي ويمنع اعتراف دول الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين وفق توصيات العديد من برلمانات تلك الدول ويبقيها حبرا على ورق اذا ما استمر حكم أحزاب اليمين فيها.
ومن جهة أخرى فإن استمرار هذه الازمة البنيوية لليسار الأوروبي بمختلف تيارته طالما لم تتحد جهودها، يُبقي تلك الدول الأوروبية تدور في فلك سياسات الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد خروج أوروبا عن تبعيتها السياسية لها والتي ترسمها الدوائر الحاكمة هنالك وتحديدا منها مجمعات الصناعات العسكرية وراس المال بهدف حماية سياسات الهيمنة الأمريكية ومصالحها التي ما زالت تسيطر على العديد من دوائر صناعة القرار بأوروبا وخاصة منها اصحاب الفكر النيوليبرالي المتوحش تجاه قضايا الشعوب وحرياتها وعدالتها.
برأيي أن الفرصة والحاجة الآن متوفرة اكثر من اي وقت مضى في ظل ظروف العالم المستجدة وبدء التحولات الظاهرة بالنظام العالمي نحو تعددية الاقطاب ، وظهور مواقف أوروبية شعبية بل وفي عدد من المواقف الرسمية الأوروبية المنقسمة تجاه العضوية بالناتو واستمرار محاولات الضغط الأمريكي واجرائاتها العقابية ضد روسيا وغيرها من الدول التي لا تسير في فلكها ، التي باتت تستدعي الحوار الجاد والمسوؤل بين تلك القوى اليسارية والتقدمية بأوروبا بهدف توحيد جهودها لانقاذ أوروبا من توحش رأس المال وقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق المستضعفين ومناهضة مظاهر العنصرية الناشئة في عدد من دولها اليوم ، ومن أجل أن تكون اوربا لاعبا اساسيا بالنظام العالمي وفي حل قضايا الصراعات بالعالم وبالمقدمة منها إنهاء الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري المرتبط به ، واتاحة الحرية لشعبنا الفلسطيني على أسس القانون الدولي والعدالة وحق تقرير المصير ، وإنهاء حالة الحروب والحروب بالوكالة التي تستهدف الشعوب في هذا العالم ، من أجل ضمان السلم والأمن الدوليين .